في يوليو العام الماضي، بينما كنت في ميشيجان من أجل حضور إحدى المناظرات الرئاسية المبكرة التي يجريها الحزب «الديمقراطي»، دُعيت إلى العشاء مع بيرني ساندرز. وبعد الانتهاء من الطعام، دارت مناقشة حرة التدفق عن عوامل التغير السياسي والاجتماعي، وامتلأت بذكريات شخصية ودروس مستفادة من الشخصيات التاريخية التي عرفها كثيرون من الضيوف، وعدت هذه الليلة وأنا أرى بيرني ساندرز من منظور مختلف، فهو مرشح للرئاسة الأميركية، لكن في الوقت نفسه يتعين النظر إليه كشخصية ستحقق تحولاً في التاريخ السياسي الأميركي الحديث.
ومنذ حملته في عام 2016 إلى الآن، استطاع ساندرز أن يحفز حركة سياسية تقدمية، ويوفر لها التنظيم والتوجيه، وصعد بقضايا مثل الرعاية الصحية والتعليم والمطالبة بأجر يوفر حياة كريمة ليجعلها حقوقاً أساسية للانسان، وخلق زخماً ساعد على انتخاب مئات الأشخاص أصحاب العقليات المشابهة في مناصب بالكونجرس وفي الولايات وفي الحكومات المحلية وفي قيادة الأحزاب، ومن ثم أوقف ساندرز الانحراف نحو «اليمين» في الحزب «الديمقراطي»، الذي أصبح يخجل في العقود الأربعة الماضية من تأكيد دور الحكومة باعتباره عاملاً للتغير الاقتصادي، وبفضل الزخم الذي خلقه ساندرز شعر «الديمقراطيون» الآخرون أنهم مضطرون لتبني قائمة أولوياته التقدمية.
وفي هذه الليلة، بينما كنت أنظر إلى المرشحين العشرة الواقفين، خلف منصة الحديث على مسرح المناظرة، طرأ على ذهني أنه بعد عقد من الآن، إذا سألت الأميركيين أن يذكروا «الديمقراطيين» الذين خاضوا السباق ذاك العام، ربما لن يستطيع معظمهم تذكر إلا اسماً أو اثنين، ومن شبه المؤكد أن يكون بيرني في أعلى قمة الأشخاص الذين يستطيعون تذكرهم.
أسرد هذه القصة لأنها مهمة لفهم ساندرز، والدور الذي يلعبه لجعل لسباق هذا العام معنى. فقد دخل أكثر من 20 مرشحاً إجمالاً في سباق 2020، كان بينهم أعضاء من مجلس الشيوخ وعدد قليل من حكام الولايات ونواب ورؤساء بلديات وأصحاب مليارات، وبعضهم شهد لحظات صعود حين جذب انتباه وسائل الإعلام، وارتفع في استطلاعات الرأي وجمع بعض المال، ثم هبط بنفس السرعة كما صعد، ولم يبق إلا نائب الرئيس السابق جو بايدن وبيرني ساندرز، وجاء صعود بايدن إلى القمة نتيجة عاملين: الأول أنه معروف ومحبوب وسط قطاعات محورية من الناخبين «الديمقراطيين»، وبخاصة الأميركيين الأفارقة والنقابات، والأهم هو أن بايدن- بالنسبة للحزب وقاعدة متبرعيه- ليس بيرني.
ومنذ بداية هذه الانتخابات، لم يفزع مؤسسة الحزب أكثر من احتمال فوز ساندرز، ففي البداية ظهر وابل من المقالات الافتتاحية والتعليقات التلفزيونية التي حذرت من بيرني، ثم بعد فوزه بأغلبية أصوات الناخبين في السباقات الثلاثة الأولى، تصاعد الخوف إلى درجة غير مسبوقة من الهجوم، ومنذ أربعة عقود، لم أر شيئاً مثل هذا قط.
فعلاوةً على الهجمات المدفوعة، برعاية لجان العمل السياسي الكبيرة عن طريق «أموال الظل»، انضم إلى الهجوم مسؤولون «ديمقراطيون» منتخبون وزعماء في الحزب وطائفة من المعلقين في التلفزيون وكتاب مقالات رأي، فيما بدا أحياناً كما لو أنها جوقة معارضة منظمة، وكان من بين حجج الهجوم أنه إذا فاز بيرني، سيفوز ترامب و«الديمقراطيون» سيخسرون مجلس النواب، ولن يستعيدوا السيطرة أبداً على مجلس الشيوخ، وإذا فاز بيرني فإنه سيدمر الحزب «الديمقراطي»، ومن بين الحجج الأخرى أن بيرني «اشتراكي» ونسخة يسارية من ترامب، وسيدفع الحكومة إلى الإفلاس، كما أنه طاعن في السن ومريض.
واستفاد بايدن من هذه الحملة الإعلامية السلبية المدفوعة والمجانية على بيرني، فبعد فوز بايدن في ساوث كارولاينا، بدأ المرشحون «الديمقراطيون» المعتدلون الآخرون الانسحاب من السباق، داعمين بايدن في سباقه.
ولدى الحزب الآن مرشح يتبنى أفكاره ليواجه التهديد الذي يمثله ساندرز، وفي السباقات التى أعقبت هذا، فاز بايدن بسهولة إلى حد كبير، وأشارت استطلاعات الرأي إلى أن غالبية الأصوات كانت تدعم قائمة أولويات ساندرز، لكنهم تأثروا بوضوح بالهجوم على ترشيحه. فقد ذكر الخاضعون لاستطلاعات الرأي، أنهم يريدون الفوز في انتخابات نوفمبر، ويخشون ألا يستطيع مرشح «اشتراكي» الفوز، رغم أن استطلاعات الرأي أشارت إلى أن هامش فوز المحتمل لساندرز على ترامب، هو نفس الهامش الذي يتمتع به بايدن.
والدعوات تتصاعد كي ينهي ساندرز حملته، كي يقدم لبايدن طريقاً واضحاً للفوز، وسواء انسحب ساندرز أو لم ينسحب، فالواضح هو الدرس الذي تعلمته من العشاء مع ساندرز، أي أنه ليس مرشحاً آخر وحسب وحملته حملة أخرى وكفى، إنه يمثل حركة سياسية للتغيير يتعين الالتفات إليها، والتحدي الذي يمثله التقدميون للجناح المعتدل في الحزب حقيقي، ولن ينتهي. وسيواصلون التأكيد على أن للحكومة دوراً إيجابياً وحاسماً في التصدي لعدم المساواة في الدخول، وضمان حق الرعاية الصحية والتعليم والتأكيد على العدالة البيئية والسياسية والاجتماعية والعرقية للجميع، صحيح أن المعتدلين قد يفوزون بهذه المناوشة لكن كي يبنوا حركة أغلبية تضمن الفوز في نوفمبر المقبل، يتعين عليهم استيعاب التقدميين في الحزب.