استقطابات عديدة جرت على مدى ثلاثة انتخابات نيابية إسرائيلية أخيرة، أشّرت إلى فشل محاولات «الليكود» و«أزرق أبيض» و«إسرائيل بيتنا» و«كتلة اليمين» فرض اختراق على فلسطينيي 48. بل كانت لتلك المحاولات ارتدادات عكسية، فجاء العرب موحدين في «القائمة المشتركة»، ثم كانت نسبة مشاركتهم الأعلى، إذ لامست الـ65%، بزيادة 5% عن انتخابات سبتمبر 2019، و15% عن انتخابات إبريل 2019.
إن ما حصل في وسط «عرب إسرائيل» تطور مهم، تسببت به الموجة العنصرية المعادية التي أطلقها قادة إسرائيل الحاليون (بنيامين نتنياهو وبيني غانتس وأفيغدور ليبرمان و«كتلة اليمين»). وبحسب المحللة الاقتصادية الإسرائيلية «ميراف ارلوزوروف» فإن «64.7% من أصحاب حق الاقتراع في أوساط المواطنين العرب، صوتوا في الانتخابات للكنيست الـ23. نحن لا نذكر أبداً مجموعة رفعت نسبة تصويتها بهذا الشكل خلال سنة. إنها نسبة التصويت الأعلى للعرب منذ انتخابات 1999 حين ذهب 75% منهم إلى صناديق الاقتراع لتتويج إيهود باراك رئيساً للحكومة». وإذ تبين الإحصائيات الإسرائيلية أن فلسطينيي 48 يشكلون 16% من الناخبين في إسرائيل، فإن «نصيبهم في مقاعد الكنيست يجب أن يكون 19 مقعداً»، لكن ارلوزوروف استخلصت أن «15 مقعداً إنجاز مدهش بكل المقاييس».
الفضل في زخم مشاركة العرب، مرده نوايا ومواقف الساسة اليهود السلبية تجاههم، مع إدراكهم قوتهم السياسية وضرورة استخدامها. وعليه، تجاوز فلسطينيو 48 مشكلة الإحجام عن الاقتراع وتدني نسبة الإقبال على التصويت، علاوة على تشتت أصواتهم بين قوائم وأحزاب عربية متنافسة، وذهاب جزء منها لأحزاب اليسار الصهيوني. بل يمكن الحديث اليوم عن توافق وانسجام بين مكونات فلسطينيي 48، ما يسمح بتقليص نفوذ وتمثيل الأحزاب الصهيونية في البيئة العربية. ويعود «الفضل» في ذلك كله إلى سياسة اليمين الإسرائيلي بإقصاء المواطنين العرب في ظل استعار خطابه الصهيوني القومي والديني اليميني.
حضور فلسطينيي 48 في الكنيست بواقع 15 عضواً يسمح لهم بإنشاء كتلة قوية قادرة على عقد تحالفات وممارسة ضغوط توفر لهم إمكانيات فعلية لاستثمار أي هوامش في ظل تصاعد اليمين الإسرائيلي. ثم إنهم صوت قوي لفضح ممارسات إسرائيل وديموقراطيتها الزائفة.
وقد أدت نتائج الانتخابات وستؤدي إلى مزيد من الفرز والاستقطاب، بمعنى أن الكنيست الإسرائيلي اليميني التوجهات لن يسمح بمشاركة عربية فاعلة. وبحسب الكاتب الإسرائيلي جاكي خوري فإن «نتائج الانتخابات تنقل رسالة واضحة للوسط العربي: خطاب السلام، المساواة، الشراكة والاندماج، ربما يزيد الدافعية من أجل الخروج للتصويت، لكنه لم يغير واقع إسرائيل كدولة يمين، وكل زيادة في تمثيل العربي في الكنيست لن تزيد احتمالية الاندماج والتأثير، بل ستؤدي إلى تطرف الجمهور الإسرائيلي وإقصاء العرب».
وتناول الكاتب جدعون ليفي مسألة قلة عدد اليهود المصوتين للقائمة المشتركة رغم تلاقيهم في أمور على رأسها رفض العنصرية التي يرسخ لها قادة إسرائيل الحاليون، معتبراً أن ناخبي اليسار لم يتحرروا من قيود الصهيونية. وختم يقول: «في إسرائيل، الصهيونية هي دِين إلزامي. اليهودي الذي يصوت للمشتركة ما يزال يُعَد شخصاً خائناً. وإسرائيل 2020 ما تزال غير مستعدة لذلك. واليسار الحقيقي سينهض هنا فقط عندما ننفطم من الإدمان على الصهيونية ونتحرر من قيودها».
المشاركة في الانتخابات ليست موقفاً مبدئياً بل تكتيكياً، وربما استراتيجياً في المرحلة الراهنة كونها تتيح لفلسطينيي 48 تنظيم أنفسهم سياسياً واجتماعياً في الداخل الإسرائيلي، والضغط من أجل حقوقهم المدنية والوطنية، علاوة على حقوق باقي إخوانهم من الفلسطينيين في الضفة والقطاع والشتات والمنفى. أما سياسة مقاطعة الانتخابات فتؤدي لتضاؤل الأحزاب العربية، وفراغ في القيادة، ما يعيد تقوية صيغ العوائل والحمائل والطوائف التي لطالما لعبت بها الحكومات الإسرائيلية وعرفت كيف توظفها!
*كاتب وباحث سياسي