لم تخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي فعلياً بعد، بخلاف الاعتقاد الشائع. فقد دخلت العلاقة بينهما مرحلة انتقالية تستمر طوال عام 2020، حيث تبقى التعاملات بينهما في مختلف المجالات كما هي محكومة بمعايير الاتحاد الأوروبي.
وبدأت في 2 مارس الجاري مفاوضات ستحدد نتيجتها ما ستكون عليه العلاقة الجديدة مطلع العام المقبل، أو بعده إذا تعذر التوصل لاتفاق وقبلت حكومة بوريس جونسون تمديد هذه المفاوضات، رغم إعلانها رفضه ذلك.
والأفضل للطرفين، وللعالم، أن يكتمل «بريكست» على أساس متفق عليه، ليمتلك مقومات الاستدامة ويحقق الاستقرار الاقتصادي والتجاري والمالي في قارة تعد قلب العالم، رغم تراجع مكانتها وثقلها مقارنة بما كانت عليه قبل عقدين. سيناريو فشل المفاوضات، المتوقع إجراء جولتها الثانية، ربما يكون أحد السيناريوهات السيئة للاقتصاد العالمي، إذا أصرت حكومة جونسون على تنفيذ «بريكست» من دون اتفاق.
ونعلم مدى صعوبة المفاوضات التي تشمل قضايا كثيرة، ولا تقتصر على التجارة والاقتصاد، بل تشمل الأمن والدفاع، والسياسة الخارجية، ومصالح الشركات، وأوضاع المواطنين، ومسائل تفصيلية عدة مثل الشحن والصيد، وغيرها.
ويسعى مفاوضو الاتحاد الأوروبي، بقيادة ميشال بارنييه، إلى استمرار العمل بمعايير الاتحاد في مجالات كثيرة لا تقتصر على التجارة، بل تشمل مثلاً الحماية الاجتماعية والبيئية، ومعدلات الدعم الحكومي للشركات، وقواعد التصدي للتغير المناخي. وترفض حكومة جونسون استمرار الالتزام بكل هذه المعايير، على أساس أن بريطانيا لن تخرج من الاتحاد الأوروبي لتبقى مكبلة بقواعد يفرضها على أعضائه.
ويبدو أنه لا توجد فرصة لحلول وسط من نوع معاملة بريطانيا مثل دول أخرى تربطها اتفاقات تجارة حرة مع الاتحاد، مثل أستراليا. لا يرغب مفاوضو بروكسل في الذهاب بهذا الاتجاه، ويرون فرقاً كبيراً بين بريطانيا وأية دولة لديها اتفاقية تجارة حرة مع الاتحاد الأوروبي. فلم تكن هذه الدول أعضاء في الاتحاد لمدة 27 عاماً، ولا تقع على حدوده.. هكذا يجادل بارنييه وزملاؤه.
ولذا، لا يوجد يقين بإمكان التوصل إلى اتفاق ينظم بريكست في نهاية المرحلة الانتقالية آخر ديسمبر 2020. وما لم تقبل حكومة جونسون تمديد المفاوضات، فهذا يعني «بريكست فوضوي» لن تقف تداعياته على الأسواق عند حدود الطرفين.
ورغم أن هذا الوضع يمثل ضغطاً شديداً على المجتمع البريطاني، لأنه يخلق حالة عدم يقين بشأن المستقبل، فإن هذا المجتمع يتميز بدرجة عالية من التماسك حتى في ظل الانقسام السياسي حول بريكست. فلا خطر من أي انقسام طالما بقى سياسياً، ولم يصل أعماق المجتمع. وربما يكون من حسن حظ الإنجليز أنهم لا يعرفون الآن انقساماً ثقافياً من النوع الذي يهدد بعض دول العالم في عصر انفجار الهويات الفرعية. لذلك لم يجد سكان لندن مشكلة في انتخاب صادق خان، المسلم من أصل باكستاني، عمدةً عام 2016، في زمن الكراهية الدينية.
صحيح أن هناك محللين ومراقبين يرون أن خطر الانقسام الثقافي يقترب من بريطانيا، في ضوء ازدياد الإرهاب الديني المستتر بالإسلام، والإرهاب العنصري الأبيض، ووجود اليمين الشعبوي الراديكالي. لكن الإرهاب بشقيه يمثل حالة هامشية، ويصعب عدُّه مؤشراً على انقسام ثقافي في المجتمع. كما أن اليمين الشعبوي يتجه إلى الانحسار في ظل تنامي شعبية اليمين التقليدي ممثلاً في حزب المحافظين.
والمهم، هنا أن الانقسام الثقافي ليس له تاريخ في بريطانيا، بخلاف دول أوروبية أخرى، وأن المجتمع البريطاني استطاع منذ مطلع القرن الـ19 تحقيق حالة تعايش كافية في الزمن الحالي تحديداً.
ورغم ذلك لا يوجد يقين بشأن قدرة بريطانيا على تحمل تداعيات «بريكست فوضوي»، مثلها في ذلك مثل أوروبا. ولذا، يبقى التوصل إلى اتفاق لبدء الخروج بطريقة منظمة أفضل لهما وللعالم من الدخول في مخاطرة انفصال مفاجئ يصعب تقدير حجم أثره السلبي في الأسواق.
*مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية
وبدأت في 2 مارس الجاري مفاوضات ستحدد نتيجتها ما ستكون عليه العلاقة الجديدة مطلع العام المقبل، أو بعده إذا تعذر التوصل لاتفاق وقبلت حكومة بوريس جونسون تمديد هذه المفاوضات، رغم إعلانها رفضه ذلك.
والأفضل للطرفين، وللعالم، أن يكتمل «بريكست» على أساس متفق عليه، ليمتلك مقومات الاستدامة ويحقق الاستقرار الاقتصادي والتجاري والمالي في قارة تعد قلب العالم، رغم تراجع مكانتها وثقلها مقارنة بما كانت عليه قبل عقدين. سيناريو فشل المفاوضات، المتوقع إجراء جولتها الثانية، ربما يكون أحد السيناريوهات السيئة للاقتصاد العالمي، إذا أصرت حكومة جونسون على تنفيذ «بريكست» من دون اتفاق.
ونعلم مدى صعوبة المفاوضات التي تشمل قضايا كثيرة، ولا تقتصر على التجارة والاقتصاد، بل تشمل الأمن والدفاع، والسياسة الخارجية، ومصالح الشركات، وأوضاع المواطنين، ومسائل تفصيلية عدة مثل الشحن والصيد، وغيرها.
ويسعى مفاوضو الاتحاد الأوروبي، بقيادة ميشال بارنييه، إلى استمرار العمل بمعايير الاتحاد في مجالات كثيرة لا تقتصر على التجارة، بل تشمل مثلاً الحماية الاجتماعية والبيئية، ومعدلات الدعم الحكومي للشركات، وقواعد التصدي للتغير المناخي. وترفض حكومة جونسون استمرار الالتزام بكل هذه المعايير، على أساس أن بريطانيا لن تخرج من الاتحاد الأوروبي لتبقى مكبلة بقواعد يفرضها على أعضائه.
ويبدو أنه لا توجد فرصة لحلول وسط من نوع معاملة بريطانيا مثل دول أخرى تربطها اتفاقات تجارة حرة مع الاتحاد، مثل أستراليا. لا يرغب مفاوضو بروكسل في الذهاب بهذا الاتجاه، ويرون فرقاً كبيراً بين بريطانيا وأية دولة لديها اتفاقية تجارة حرة مع الاتحاد الأوروبي. فلم تكن هذه الدول أعضاء في الاتحاد لمدة 27 عاماً، ولا تقع على حدوده.. هكذا يجادل بارنييه وزملاؤه.
ولذا، لا يوجد يقين بإمكان التوصل إلى اتفاق ينظم بريكست في نهاية المرحلة الانتقالية آخر ديسمبر 2020. وما لم تقبل حكومة جونسون تمديد المفاوضات، فهذا يعني «بريكست فوضوي» لن تقف تداعياته على الأسواق عند حدود الطرفين.
ورغم أن هذا الوضع يمثل ضغطاً شديداً على المجتمع البريطاني، لأنه يخلق حالة عدم يقين بشأن المستقبل، فإن هذا المجتمع يتميز بدرجة عالية من التماسك حتى في ظل الانقسام السياسي حول بريكست. فلا خطر من أي انقسام طالما بقى سياسياً، ولم يصل أعماق المجتمع. وربما يكون من حسن حظ الإنجليز أنهم لا يعرفون الآن انقساماً ثقافياً من النوع الذي يهدد بعض دول العالم في عصر انفجار الهويات الفرعية. لذلك لم يجد سكان لندن مشكلة في انتخاب صادق خان، المسلم من أصل باكستاني، عمدةً عام 2016، في زمن الكراهية الدينية.
صحيح أن هناك محللين ومراقبين يرون أن خطر الانقسام الثقافي يقترب من بريطانيا، في ضوء ازدياد الإرهاب الديني المستتر بالإسلام، والإرهاب العنصري الأبيض، ووجود اليمين الشعبوي الراديكالي. لكن الإرهاب بشقيه يمثل حالة هامشية، ويصعب عدُّه مؤشراً على انقسام ثقافي في المجتمع. كما أن اليمين الشعبوي يتجه إلى الانحسار في ظل تنامي شعبية اليمين التقليدي ممثلاً في حزب المحافظين.
والمهم، هنا أن الانقسام الثقافي ليس له تاريخ في بريطانيا، بخلاف دول أوروبية أخرى، وأن المجتمع البريطاني استطاع منذ مطلع القرن الـ19 تحقيق حالة تعايش كافية في الزمن الحالي تحديداً.
ورغم ذلك لا يوجد يقين بشأن قدرة بريطانيا على تحمل تداعيات «بريكست فوضوي»، مثلها في ذلك مثل أوروبا. ولذا، يبقى التوصل إلى اتفاق لبدء الخروج بطريقة منظمة أفضل لهما وللعالم من الدخول في مخاطرة انفصال مفاجئ يصعب تقدير حجم أثره السلبي في الأسواق.
*مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية