يميز العسكريون بين الاستراتيجية والتكتيك؛ والأولى هي الرؤية والتوجه العام، أما الثاني فهو التفاصيل والمرونة في تطبيقها على الأرض، فهل تعاني تركيا حالياً من الارتجال والتشتت الاستراتيجي؟
منذ عشر سنوات تقريباً، أوضح أحمد داوود أوغلو، وزير خارجية تركيا في حينه، أساس سياسة تركيا الخارجية مع جيرانها: «صفر مشاكل»، كان هذا بعد وصول «حزب العدالة والتنمية» بقيادة أردوغان للحكم عام 2002، لقد رَحَّب الغرب بوصول هذا الحزب للحكم، على أساس أنه يقدم نموذجاً للتصالح بين الإسلام والديمقراطية الغربية في الشرق الأوسط وكل المناطق الأخرى، حيث يمثل المسلمون أغلبية.
استهدفت سياسة «صفر مشاكل» زيادة تجارة تركيا مع جيرانها، وتدعيم مكانتها كقوة اقتصادية إقليمية، لكن أوغلو ترك وزارة الخارجية، ثم غادر الحزب الذي بدأ، بعد المحاولة الانقلابية عام 2016، يتجه إلى مزيد من السيطرة الشخصية، بعيداً عن نموذج الديمقراطية الغربية، وامتد ذلك التغير إلى السياسة الخارجية أيضاً، لكن لم يتوقع الكثيرون أن يصل التغيير من النقيض إلى النقيض؛ أي من «صفر مشاكل» إلى كثافة في المشاكل، تصل حد النزاع المسلح، وعلى أكثر من جبهة، وفي وقت واحد.
وهنا نذكر حدثين مهمين؛ في 2012 كان هناك اتهام قانوني صريح لبعض أعضاء الحزب الحاكم بالفساد، وفي 2016 جرت محاولة انقلاب تم اتهام رجل الدين غولون، حليف أردوغان السابق والمقيم حالياً في الولايات المتحدة، بالوقوف وراءها، وهما حدثان قد يشرحا تغيرات السياسة الداخلية، وفقدان رفاق الدرب القدامى.. لكن ماذا عن السياسة الخارجية، على الأقل في ثلاثة اتجاهات:
1- تضاؤل الاهتمام التركي بعضوية الاتحاد الأوروبي، وإن كان هذا رد فعل متوقع للطريقة المهينة، التي عامل بها الاتحاد طلب تركيا على مر السنين، فإن تقارب أنقرة (عضو الناتو) مع موسكو، واستيراد السلاح المتقدم منها، لا يزال غير مفهوم.
2- التوجه شمال أفريقيا، وعقد اتفاق مع حكومة السراج، وتحديد الحدود البحرية، سعياً للتنقيب عن النفط في البحر الأبيض المتوسط، علاوةً على تأجيج الصراع مع كل من اليونان وقبرص ومصر، بل وصل الأمر إلى إرسال قوات تركية إلى ليبيا، لتصبح أنقرة طرفاً في الحرب الأهلية الدائرة بين حكومة طرابلس والجيش الوطني الليبي بقيادة اللواء خليفة حفتر، وبهذا تزداد احتمالات تكرر السيناريو السوري في ليبيا، أي اشتعال حروب داخل حرب أهلية واحدة، خاصة مع تصدير مرتزقة من سوريا إلى ليبيا.
3- التدخل العسكري التركي في الشمال السوري، وهو ليس تطوراً جديداً، وإنما الجديد هو دخوله مرحلة الحرب المعلنة، خاصة بعد مقتل حوالي 34 عسكرياً تركياً نهاية الشهر الماضي، ثم حدوث المواجهة بين السلاح الجوي للبلدين، كان الدافع الأول للتدخل التركي محاولة هزيمة الأكراد، ومنع حدوث أي تقدم سياسي لهم في سوريا، حتى لا تنتشر العدوى إلى الداخل التركي نفسه، لكن زيادة التدخل العسكري التركي في سوريا، قد تؤدي إلى صدام عسكري مع الروس، القوة العسكرية الحامية في سوريا، ومن هنا سعي أردوغان إلى قمة موسكو الأسبوع الماضي، لتجنب الخطر الماثل.
ولو استطاع أردوغان قراءة التاريخ، فسيرى أن الانخراط في جبهات متعددة، يؤدي إلى التشتت الاستراتيجي واختلاط الأولويات، بما يفضي حتماً إلى هزيمة مُهينة ومُذلّة.. وأحد نماذج ذلك ما حدث لمصر في حرب 1967، حين وقع عبدالناصر في فخاخ الحرب مع إسرائيل، بينما نحو نصف قواته يخوض حرب استنزاف دامية في جبال اليمن.
ويظل التاريخ عظة وعبرة لمن يريد أن يعتبر.
*أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الأميركية -القاهرة