أتمت إسرائيل لتوها ثالث انتخابات قومية في أقل من عام. وأول انتخابين أجريا في أبريل وسبتمبر العام الماضي وانتهيا بمأزق، يتمثل في عدم وجود حزب قادر على تشكيل ائتلاف حاكم يسيطر على 61 مقعداً في الكنيست من إجمالي الأعضاء البالغ عددهم 120 عضواً. صحيح أن نتيجة الجولة الثالثة تبدو ملتبسة مثل الجولتين السابقتين، لكنها تؤكد عدداً من التوجهات المزعجة بشدة التي تشكل السياسة الإسرائيلية. وكأن شيئاً لم يحدث في الشهور التي تخللت الانتخابات الإسرائيلية الثلاثة، لكن الواقع أن هناك عدداً من التطورات الدرامية.
وأول هذه التطورات أن بنيامين نتنياهو زعيم حزب «ليكود» ورئيس الوزراء الحالي، وُجهت إليه اتهامات رسمياً بالفساد السياسي والمالي. وربما تبدأ محاكمته في غضون أسابيع قليلة. وفشلت محاولته تأمين حصانته من التقاضي. ويحاول خصوم نتنياهو إقرار تشريع قد يمنع نتنياهو من تولي منصب رئيس الوزراء. وشهدت الشهور القليلة الماضية كشف إدارة ترامب الستار عن «صفقة القرن». والصفقة تقدم لنتنياهو كل شيء يأمله. وأشار نتنياهو في تصريحات أدلى بها قبل أسبوع من الانتخابات إلى فوائد الصفقة قائلاً:
«عملت على مدار السنوات الثلاث السابقة عن كثب شديد مع صديقي الطيب الرئيس ترامب لوضع خطة مختلفة للسلام في الشرق الأوسط. وقبل بضعة أسابيع وقفت باعتباري رئيساً لوزراء إسرائيل، إلى جانب رئيس الولايات المتحدة الذي قال إن الولايات المتحدة ستعترف بسيادة إسرائيل على غور الأردن وشمال البحر الميت وكل المستوطنات اليهودية، صغيرها وكبيرها، في يهودا والسامرا».
وكان من بين العوامل التي أثرت على هذه الجولة من الانتخابات الإسرائيلية مدى استسلام خصوم نتنياهو لتحريضه العنصري المتواصل ضد مواطني إسرائيل من العرب الفلسطينيين. واستمر نتنياهو في إصراره على أن «بيني جانتس» زعيم حزب «أزرق-أبيض» سيكون «شريكاً لداعمي الإرهاب»- وهو الوصف الذي يطلقه نتنياهو على العرب- إذا فاز، ليشكل حكومة جديدة. فلم يكتف «جانتس» بتأكيده أنه لن «يشترك» مع الأعضاء العرب في «الكنيست»، بل تبنى الكثير من سياسات نتنياهو مثل قبول صفقة ترامب، والوعد بضم قطاعات كبيرة من الضفة الغربية المحتلة.
وأخيراً، هناك انهيار كامل لما كان في مرحلة ما تياراً ليبرالياً محدود العدد، لكن قوي في السياسة الإسرائيلية. فحزب «العمل» الذي كان يحتل 44 مقعداً في الكنيست عام 1992 لم يستطع إلا انتخاب ثلاثة أعضاء في الكنيست، كجزء من كتلة هزيلة من سبعة أعضاء اضطر إلى تشكيلها مع حزبين ضعيفين آخرين.
وحصد حزب «ليكود» بزعامة نتنياهو 36 مقعداً في الكنيست الجديد، بينما حصد حزب «أزرق أبيض» بزعامة «جانتس» 33 مقعداً. وقد يسيطر نتنياهو بتحالفه مع شركائه من «اليمين» المتطرف والأحزاب الدينية المتطرفة على نحو 58 مقعداً» وهو عدد غير كاف لتشكيل حكومة. وقد يصل عدد مقاعد «جانتس» مع حلفائه إلى 40 مقعداً فقط. وخارج هذه الحسابات، هناك حزبان عربيان اتحدا تحت اسم «القائمة العربية الموحدة». وحصدت «القائمة» 15 مقعداً ورفض «جانتس» الشراكة المحتملة معها. والقائمة من جانبها أوضحت، وهذا هو الأهم، أنه لا يمكنها دعم «جانتس» بعد أن أيد سياسات لا يرضونها. ثم هناك سبعة مقاعد حصدها حزب «إسرائيل بيتنا» العلماني اليميني المتطرف المناهض للعرب بزعامة «أفيجدور ليبرمان». وحزب «ليبرمان» يستطيع أن يوفر الأغلبية التي يحتاجها نتنياهو ليشكل حكومة، لكنه خصم لدود للأحزاب الدينية ويصر على ألا يشاركهم في حكومة.
لكن مع عدم اليقين الذي يكتنف هذه الجولة الثالثة، يمكننا استخلاص بعض الملاحظات بناء على ما حدث أثناء العام الماضي. فقد فاز نتنياهو، رغم احتمال عدم قدرته على تشكيل حكومة، واحتمال إدانته بالاتهامات الموجهة إليه. وخطابه المعادي للعرب وغوغائيته وإصراره على إنكار أي حقوق عربية في الأراضي المحتلة يرسم معالم السياسة الإسرائيلية. ورغم الاتهامات الخطيرة التي تحوم حوله، لكن الإسرائيليين صوتوا له لأنهم يؤيدون سياساته وعنصريته ورفضه للحقوق الفلسطينية. وحتى الذين لا يروقهم شخصياً ويرفضون استغلاله للانقسامات داخل المجتمع اليهودي الإسرائيلي يدعمون السياسات التي يطرحها.
وعلاوة على هذا، من المهم الاعتراف بنهاية أسطورة «معسكر السلام الإسرائيلي». صحيح أنه مازال هناك إسرائيليون شجعان يواصلون الكفاح ضد الاحتلال ومن أجل حقوق الإنسان الفلسطيني، لكنهم لا يمثلون قوة انتخابية وغير قادرين على التأثير على السياسة الإسرائيلية. فقد أفلح نتنياهو في تخويف السياسيين الذين ربما كان من الممكن أن يلعبوا دوراً في الكنيست كمعارضين لسياساته. واستغل هو وزملاؤه سلطاته في إقرار قوانين تعاقب وتضعف جماعات السلام.
وهناك عامل مهم آخر ساهم في موت «معسكر السلام» تمثل في جبن الإدارات الأميركية السابقة التي سمح إذعانها للسياسة الإسرائيلية بتقوية ودعم اليمين الإسرائيلي بينما أضعف اليسار. ولهذا أصبحت «القائمة العربية الموحدة» الآن ثالث أكبر حزب سياسي ومعسكر السلام الحقيقي الوحيد في إسرائيل. ومع التحرك نحو ضم مناطق محورية من الضفة الغربية وتوسيع المستوطنات اليهودية في الأراضي المحتلة، تمهد إسرائيل الطريق إلى فرض واقع دولة واحدة تتبع سياسة الفصل العنصري (آبارتايد)، تصبح فيها «القائمة» المناضل الرئيسي من أجل الديمقراطية والحقوق المتساوية والعدالة لكل السكان الإسرائيليين والفلسطينيين.
*رئيس المعهد العربي الأميركي- واشنطن