تزداد احتمالات إبرام اتفاق نهائي لتسوية الأزمة في أفغانستان، وسحب القوات الأميركية. وليس اتفاق الهدنة الجزئية المؤقتة، الذي توصلت إليه واشنطن وحركة «طالبان» لخفض أعمال العنف وبدأ العمل به يوم الجمعة الماضي، إلا خطوة نحو تسوية أصبح الطرفان راغبين فيها أكثر من أي وقت مضى، بغض النظر عن مدى نجاح هذه الهدنة. فقد تحدث وزيرا الخارجية مايك بومبيو والدفاع مارك إسبر مرات خلال الشهر الجاري عن تقدم مهم في المحادثات مع «طالبان».
ويبدو أن الرئيس ترامب يريد إعادة قسم كبير من الجنود الأميركيين من أفغانستان قبل انتخابات نوفمبر الرئاسية، وربما قبل إعلان إعادة ترشيحه رسمياً في أغسطس القادم. وهذا يفسر ازدياد الاتصالات بين واشنطن وقيادة «طالبان» بعد زيارة ترامب لقاعدة باجرام الجوية الأميركية قرب كابول أواخر نوفمبر الماضي لإحياء «عيد الشكر» مع جنودها، وحديثه أمامهم عن توقعه التوصل إلى اتفاق قريب مع الحركة.
وتزامن ذلك مع استئناف المحادثات، التي كان قد أوقفها في 8 سبتمبر الماضي عقب عملية إرهابية نفذتها إحدى مجموعات «طالبان» عشية اجتماع كان مقرراً في واشنطن لبحث صيغة شبه نهائية لتسوية الأزمة.
وكان واضحاً، في حينه، أن وقف المحادثات قرار تكتيكي يهدف لممارسة مزيد من الضغوط على «طالبان» لدفعها إلى ضبط حركة الجناح الأكثر تطرفاً داخلها، والذي مازال يحاول عرقلة إيجاد اتفاق. لكن المعطيات تُفيد بأن تسوية الأزمة الأفغانية صارت خياراً استراتيجياً أميركياً.
ومن الطبيعي أن يكون هناك خلاف في أوساط المؤسسات الأميركية بشأن تداعيات هذه التسوية. غير أن المختلفين مع اتجاه ترامب إلى إنهاء الحرب في أفغانستان يجدون صعوبة في الدفاع عن موقفهم، مثلهم في ذلك مثل المعترضين على سحب معظم الجنود الأميركيين من سوريا، والانسحاب من اتفاق «5+1» حول البرنامج النووي الإيراني، والاتجاه إلى التصعيد في هذه القضية. وتعود قوة موقف ترامب في هذه القضايا إلى أن سياسته تجاهها تهدف إلى معالجة إخفاقات متوالية بدأت في عهد بوش الابن الذي شنت إدارته الأولى حربي أفغانستان والعراق، وبلغت ذروتها في عهد أوباما الذي أفضت سياسة إدارته إلى اتفاق لا يُنهي خطر عسكرة برنامج إيراني النووي، ويغفل قضايا مهمة مثل دورها الإقليمي وبرامجها الصاروخية.
لكن ليس واضحاً بعد إلى أي مدى دُرست التكلفة المحتملة لتسوية تؤدي إلى سحب الجنود الأميركيين، أو أغلبيتهم الساحقة من أفغانستان، في ضوء المعطيات الراهنة. فقد أصبحت «طالبان» أقوى مما كانت عليه عندما هُزمت في حرب 2001 التي شنتها واشنطن عقب هجمات سبتمبر، إذ طورت قدرات تُمكِّنها من السيطرة على كثير من أنحاء أفغانستان، ما لم يتضمن الاتفاق ضمانات كافية تؤكد أنها ستلتزم بما قال بومبيو إنه استعداد أبدته لقبول مجتمع تعددي. ولذا، تتطلب دراسة التكلفة المترتبة على اتفاق مع «طالبان» الإجابة عن سؤالين: الأول حول إمكانات استمرار سيطرة القوات الأفغانية الرسمية على المدن الكبرى بعد تقليص المساندة الأميركية التي تعتمد عليها، ومدى مقبولية تكريس نفوذ «طالبان» الحالي في كثير من المناطق الريفية.. والثاني عن استعداد الولايات المتحدة للتعايش مع خطر إرهاب ينطلق من أفغانستان مرة أخرى. صحيح أنه ليس مرجحاً أن تنفذ «طالبان» هجمات إرهابية ضد الولايات المتحدة بعد توقيع اتفاق معها، لكن ليس مؤكداً أنها ستمنع جماعات إرهابية من ممارسة نشاطها في أفغانستان. وحتى إذا نجح رهان ترامب على أن «طالبان» ستوجه قواتها ضد مجموعات «داعش» الموجودة شمال شرقي أفغانستان، ينبغي ضمان التزامها بعدم السماح لتنظيم «القاعدة» ببناء قواعد ارتكاز في ضوء العلاقة التاريخية بينهما.
وهكذا، فإذا كان إبرام تسوية مع «طالبان» حقاً لواشنطن التي كلفها الوجود العسكري في أفغانستان الكثير، فمن واجبها إجراء دراسة جادة من أجل تجنب تكلفة جديدة قد لا تقتصر على الولايات المتحدة إذا تحولت أفغانستان مجدداً إلى منطلق لإرهاب يهدد العالم كله.
*مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية