رغم مزاعم إدارة ترامب بأنها تعمل على جعل أميركا أكثر احتراماً وهيبة في العالم، فإن تصرفات هذه الإدارة أسهمت فحسب في استمرار تراجع الدور القيادي الأميركي. فقد أظهر الرئيس ترامب الاستخفاف بالاتفاقات والقوانين الدولية. وسلوكه وتغريداته جعلت زعماء العالم ودوله يشعرون بحالة من الخوف والارتباك. ودفع هذا بعض الحلفاء والخصوم إلى البحث عن قيادة وشراكة أخرى يمكن التنبؤ بها.
ولم يكن الأمر كذلك قبل ثلاثة عقود، بعد أن خرجت الولايات المتحدة منتصرة من الحرب الباردة، واستطاعت إدارة بوش الأب أن تدير بسلاسة الانتقال إلى نظام عالمي أحادي القطب. وحافظت إدارة كلينتون، إلى حد كبير، على نهج بوش الأب. لكن غزو إدارة بوش الابن للعراق كان بداية تفكك القيادة الأميركية ونهاية فكرة العالم أحادي القطب. وعلى خلاف الاستخدام البنّاء للدبلوماسية الذي فضله بوش الأب وكلينتون، كانت سياسات بوش الابن أحادية الجانب في غالب الأحوال وتحركها الأيديولوجية. وكانت النتيجة مدمرة للولايات المتحدة وللعالم.
فقد رأي المفكرون الأيديولوجيون من «المحافظين الجدد» الذين صاغوا نهج بوش الابن تجاه الشرق الأوسط، أن استخدام القوة الحاسمة ضد العراق ستحقق عدداً من الأهداف الحيوية. أولها وأبرزها القيام بدور القوة المهيمنة على العالم، مما يحقق عالماً أحادي الجانب تقوده الولايات المتحدة في المستقبل المنظور. واعتقدوا أنه مع غياب صدام عن الساحة، ستضرب الديمقراطية بجذورها تلقائياً في العراق، مما يحدث تحولات ليس فقط داخل بلاد الرافدين، بل في الشرق الأوسط كله.
وكما رأينا، حدث العكس. فقد ضعفت أميركا في حرب طويلة الأمد ومكلفة ليس فقط بالأرواح والأموال، بل أيضاً فيما تكبدته أميركا من خسارة في مكانتها في العالم. ومع استطالة أمد الحرب، اتضح أن أميركا أصبحت أضعف وأقل تمتعاً بالاحترام، مما سمح لأطراف إقليمية ودولية أن تعزز كيانها. ونتيجة لهذه الحرب، تجسد تعدد الأقطاب الذي سعى «المحافظون الجدد» إلى إحباطه. فعلى مستوى العالم، وسعت روسيا والصين أدوارها. وفي الشرق الأوسط، عززت تركيا وإيران نفوذهما. وأكبر تأثير لحرب العراق، ربما يكون تعزيز جرأة إيران وإطلاق عنانها لتواصل سلوكها التدخلي الطائفي في المنطقة.
وبدأت إدارة أوباما بالاعتراف بما أتلفه بوش. وأعلن الرئيس أوباما اعتزامه تصحيح المسار وإعادة بناء الثقة في دور أميركا في العالم. وحصل الرئيس الجديد على جائزة نوبل للسلام. لكن الجائزة ثبت أنها كانت سابقة لأوانها. فقد فشل أوباما في تحقيق رؤيته. وميل إدارته إلى التردد أو المداورة، أو كلاهما معاً، في مواجهة التحديات، تسبب في إحباط وخيبة أمل عميقة.
ثم أصبح دونالد ترامب رئيساً. ورغم العلامات المبكرة على سلوكه الغريب في التعامل مع المشكلات العالمية والمحلية، تعلق به بعض الأمل وخاصة في أنحاء من الشرق الأوسط بأن يكون نزيهاً وحاسماً في السياسات التي يتبعها في العالم، لكونه رجل أعمال سابقاً. لكن ثبت أن هذا أيضاً سابق لأوانه. فبعد إدارتي بوش وأوباما، كانت هناك رغبة لدى البعض في ظهور رئيس حاسم وصاحب مبادئ ويمكن توقع تصرفاته. فكان لترامب وعود عظيمة رفعت سقف الآمال، لكنه فشل في تحقيقها.
وأظهر استطلاع حديث لمركز «بيو» البحثي مدى ما شهدته توجهات الجمهور نحو الولايات المتحدة والرئيس ترامب من تراجع شديد في بلدان كثيرة حول العالم. ففي أوروبا والأميركيتين والشرق الأوسط، تغيرت التوجهات المؤيدة نحو الولايات المتحدة من الانخفاض أثناء سنوات بوش الابن، ثم إلى الارتفاع في السنوات الأولى من رئاسة أوباما، ثم إلى الانخفاض مرة أخرى في عهد ترامب. وكشف استطلاع رأي لمركز زغبي عن المسار نفسه في الشرق الأوسط، وإن تكن هناك استثناءات قليلة.
في خريف عام 2019، على سبيل المثال، اكتشفنا تلاشي التفاؤل المبدئي في بعض الدول العربية بأن سياسات إدارة ترامب تجاه بعض القضايا الإقليمية، ربما تسير في الاتجاه الإيجابي. وهناك تراجع شديد في وجهات نظر الخاضعين للمسح تجاه السياسات الأميركية في حسم الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وتحقيق الاستقرار في سوريا والعراق، والتعامل بطريقة بناءة مع العالم الإسلامي، ومعالجة التهديدات التي تشكلها إيران النووية وقائمة أولوياتها الإقليمية.
وسألنا الخاضعين للمسح في 10 دول، إذا ما كانوا يرون التغير إيجابياً أم سلبياً في السياسة الأميركية، تجاه كل من هذه المخاوف الحيوية. وكانت النتيجة أن النسبة التي ترى أن التغير سلبي تفوقت كثيراً على التي ترى أن التغير إيجابي، في كل قضية وكل بلد تقريباً. ثم سألنا الخاضعين للمسح في الدول العشر نفسها عن الدول التي يشعرون أنها ستكون أكثر الحلفاء الذين يمكن الاعتماد عليهم في المستقبل. فوجدنا أن الولايات المتحدة لم تحتل المرتبة الأولى إلا في الأردن والمملكة العربية السعودية والإمارات.
في غضون ثلاثة عقود فقط، تحولت الولايات المتحدة من قوة عظمى بلا منازع، إلى مجرد منافس، وسط قوى إقليمية وعالمية. ولم تستعد إدارة ترامب الدور القيادي لأميركا، بل فشلت في تحقيق وعودها وميلها إلى القيام بأعمال خطيرة جعلت العالم يخافها، لكن لا يثق فيها كشريك يعتمد عليه. والتراجع الأميركي مستمر.
*رئيس المعهد العربي- الأميركي- واشنطن
ولم يكن الأمر كذلك قبل ثلاثة عقود، بعد أن خرجت الولايات المتحدة منتصرة من الحرب الباردة، واستطاعت إدارة بوش الأب أن تدير بسلاسة الانتقال إلى نظام عالمي أحادي القطب. وحافظت إدارة كلينتون، إلى حد كبير، على نهج بوش الأب. لكن غزو إدارة بوش الابن للعراق كان بداية تفكك القيادة الأميركية ونهاية فكرة العالم أحادي القطب. وعلى خلاف الاستخدام البنّاء للدبلوماسية الذي فضله بوش الأب وكلينتون، كانت سياسات بوش الابن أحادية الجانب في غالب الأحوال وتحركها الأيديولوجية. وكانت النتيجة مدمرة للولايات المتحدة وللعالم.
فقد رأي المفكرون الأيديولوجيون من «المحافظين الجدد» الذين صاغوا نهج بوش الابن تجاه الشرق الأوسط، أن استخدام القوة الحاسمة ضد العراق ستحقق عدداً من الأهداف الحيوية. أولها وأبرزها القيام بدور القوة المهيمنة على العالم، مما يحقق عالماً أحادي الجانب تقوده الولايات المتحدة في المستقبل المنظور. واعتقدوا أنه مع غياب صدام عن الساحة، ستضرب الديمقراطية بجذورها تلقائياً في العراق، مما يحدث تحولات ليس فقط داخل بلاد الرافدين، بل في الشرق الأوسط كله.
وكما رأينا، حدث العكس. فقد ضعفت أميركا في حرب طويلة الأمد ومكلفة ليس فقط بالأرواح والأموال، بل أيضاً فيما تكبدته أميركا من خسارة في مكانتها في العالم. ومع استطالة أمد الحرب، اتضح أن أميركا أصبحت أضعف وأقل تمتعاً بالاحترام، مما سمح لأطراف إقليمية ودولية أن تعزز كيانها. ونتيجة لهذه الحرب، تجسد تعدد الأقطاب الذي سعى «المحافظون الجدد» إلى إحباطه. فعلى مستوى العالم، وسعت روسيا والصين أدوارها. وفي الشرق الأوسط، عززت تركيا وإيران نفوذهما. وأكبر تأثير لحرب العراق، ربما يكون تعزيز جرأة إيران وإطلاق عنانها لتواصل سلوكها التدخلي الطائفي في المنطقة.
وبدأت إدارة أوباما بالاعتراف بما أتلفه بوش. وأعلن الرئيس أوباما اعتزامه تصحيح المسار وإعادة بناء الثقة في دور أميركا في العالم. وحصل الرئيس الجديد على جائزة نوبل للسلام. لكن الجائزة ثبت أنها كانت سابقة لأوانها. فقد فشل أوباما في تحقيق رؤيته. وميل إدارته إلى التردد أو المداورة، أو كلاهما معاً، في مواجهة التحديات، تسبب في إحباط وخيبة أمل عميقة.
ثم أصبح دونالد ترامب رئيساً. ورغم العلامات المبكرة على سلوكه الغريب في التعامل مع المشكلات العالمية والمحلية، تعلق به بعض الأمل وخاصة في أنحاء من الشرق الأوسط بأن يكون نزيهاً وحاسماً في السياسات التي يتبعها في العالم، لكونه رجل أعمال سابقاً. لكن ثبت أن هذا أيضاً سابق لأوانه. فبعد إدارتي بوش وأوباما، كانت هناك رغبة لدى البعض في ظهور رئيس حاسم وصاحب مبادئ ويمكن توقع تصرفاته. فكان لترامب وعود عظيمة رفعت سقف الآمال، لكنه فشل في تحقيقها.
وأظهر استطلاع حديث لمركز «بيو» البحثي مدى ما شهدته توجهات الجمهور نحو الولايات المتحدة والرئيس ترامب من تراجع شديد في بلدان كثيرة حول العالم. ففي أوروبا والأميركيتين والشرق الأوسط، تغيرت التوجهات المؤيدة نحو الولايات المتحدة من الانخفاض أثناء سنوات بوش الابن، ثم إلى الارتفاع في السنوات الأولى من رئاسة أوباما، ثم إلى الانخفاض مرة أخرى في عهد ترامب. وكشف استطلاع رأي لمركز زغبي عن المسار نفسه في الشرق الأوسط، وإن تكن هناك استثناءات قليلة.
في خريف عام 2019، على سبيل المثال، اكتشفنا تلاشي التفاؤل المبدئي في بعض الدول العربية بأن سياسات إدارة ترامب تجاه بعض القضايا الإقليمية، ربما تسير في الاتجاه الإيجابي. وهناك تراجع شديد في وجهات نظر الخاضعين للمسح تجاه السياسات الأميركية في حسم الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وتحقيق الاستقرار في سوريا والعراق، والتعامل بطريقة بناءة مع العالم الإسلامي، ومعالجة التهديدات التي تشكلها إيران النووية وقائمة أولوياتها الإقليمية.
وسألنا الخاضعين للمسح في 10 دول، إذا ما كانوا يرون التغير إيجابياً أم سلبياً في السياسة الأميركية، تجاه كل من هذه المخاوف الحيوية. وكانت النتيجة أن النسبة التي ترى أن التغير سلبي تفوقت كثيراً على التي ترى أن التغير إيجابي، في كل قضية وكل بلد تقريباً. ثم سألنا الخاضعين للمسح في الدول العشر نفسها عن الدول التي يشعرون أنها ستكون أكثر الحلفاء الذين يمكن الاعتماد عليهم في المستقبل. فوجدنا أن الولايات المتحدة لم تحتل المرتبة الأولى إلا في الأردن والمملكة العربية السعودية والإمارات.
في غضون ثلاثة عقود فقط، تحولت الولايات المتحدة من قوة عظمى بلا منازع، إلى مجرد منافس، وسط قوى إقليمية وعالمية. ولم تستعد إدارة ترامب الدور القيادي لأميركا، بل فشلت في تحقيق وعودها وميلها إلى القيام بأعمال خطيرة جعلت العالم يخافها، لكن لا يثق فيها كشريك يعتمد عليه. والتراجع الأميركي مستمر.
*رئيس المعهد العربي- الأميركي- واشنطن