بما اعتاد عليه اليمنيون شماليين وجنوبيين خضع «اتفاق الرياض» لكامل تقاليدهم التي اعتادوا عليها في كل اتفاقاتهم السياسية، هذه التقاليد جزء من التركيبة المُعقدة جداً في هذا الجزء من العالم الذي عجز برغم تكرار الفرص المواتية عن الخروج من كهوف مظلمة بالصراعات المتداخلة، فظل اليمن جنوبه وشماله يستعيد مع كل فرصة ممكنة الأزمات التي في كل مرة تنجح في وأد حلول تعيد اليمنيين لتلك الكهوف المُظلمة.
كان تحرير عدن في يوليو 2015 نقطة تحول لم تستوعبها الذهنية اليمنية، فهي تمثل منعطفاً في صراع المحاور، وما شكله ذلك المنعطف في الصراع بين القوى الداعمة لتيار الإسلام السياسي ومحور الاعتدال العربي ظل متفاعلاً في المحافظات الجنوبية كمساحة جغرافية تخوض على مدى عقود طويلة صراعاً مع الإيديولوجية المتطرفة.
أخضعت قوى الإسلام السياسي اليمن بكامله لإرادتها، وهذه الحقيقة كانت نتاجاً لما سمي بـ (الربيع العربي) في 2011 ، واستطاعت تلك القوى استثمار كافة الفرص الممكنة لتثبيت وجودها بما في ذلك مخرجات الحوار الوطني، حتى ما تم من انقلاب «حوثي» لم يخرج عن ذلك الإطار في مقابل أن يتسلم الشق الآخر من القوى «الإسلاموية» نصيباً وافراً من الجغرافيا، وهنا تبدو الصورة المفجعة في جنوب الجزيرة العربية بأن تتقاسم القوى الإقليمية هذه المساحة بين طرفين لديهما قاسم مشترك يتمثل في العداء للسعودية كمعقل رئيس لتيار الاعتدال العربي وكذلك كموقع استراتيجي يمكن المراهنة عليه في أتون الصراعات الواسعة في الشرق الأوسط.
هنا نعود للإشكالية الجوهرية في اليمن الذي بات فعلياً خاضعاً لقوى مناهضة للمحور العربي، والذي تأكد بشكل واضح، خلال السنوات الثلاث الأخيرة، فأظهر «الإخوان» مخالبهم وكشفوا مخططهم، وأصبحت حركتهم باتجاه رهن النقاط الأساسية (عدن والمكلا والحديدة) بمثابة معركة مفصلية لا تقبل الخروج عن معادلة التسوية النهائية في مشهد ما بعد الحرب.
استفاق الجميع على أحداث عدن 2019 وكأنها خروج عن النص المرسوم لخريطة تؤدي إلى ترسيخ حقيقة الأمر الواقع، بينما كان الآخرون يدركون أن تلك الأحداث جاءت بمقدمات تفاعلت بعوامل متداخلة أنتجت ما حصل في عدن حتى وإنْ حاولت الأطراف اليمنية توظيفها في إطارها المحلي.
جاء اتفاق الرياض بين حكومة يمنية تعاني من التنظيم الدولي للإخوان المسلمين وبين المجلس الانتقالي الجنوبي كجزء من عملية جراحية تأجلت ولكنها حصلت لهيكلة المؤسسة الشرعية اليمنية وتقليص نفوذ تيار الإخوان فيها وليس كما يظن البعض بتر كل نفوذهم، فما يمتلكه «الإخوان» من قوة عسكرية تقتضي هذا المسار الصعب.
شكلت تبعات توقيع اتفاق الرياض ـ فقط التوقيع ـ فرصة سانحة لمراقبة مدى ما يشكله الطرف المختطف للمؤسسة الشرعية اليمنية من خطر، فبشكل علني ظهر وزراء ومسؤولون على قدر رفيع في المؤسسة الشرعية في أحضان حزب «العدالة والتنمية» التركي وآخرون ظهروا في أحضان دولة حليفة للمشروع التركي، وكثير منهم كشفوا ما تخفيه صدورهم تجاه السعودية والإمارات، والأكثر من ذلك خطورة التحرك العسكري بمحاولة تثبيت قواعد الاشتباك التي لم تكن لمواجهة «الحوثيين» بل لمواجهة «الجنوبيين» في عدن وساحل حضرموت.
ولأنه اليمن بتعقيداته وجزئياته الصعبة على الاستفهام أفرز ـ فقط التوقيع ـ عن صراع، فأظهرت مرحلة ما بعد التوقيع عن صفقات فساد مالي وتهريب أموال بل وغسل أموال لتطفو على سطح اتفاق الرياض وقائع أخرى لم تكن منظورة في صراع ثنائي شهد استقطاباتها أن القدرة على توظيف الاستحداثات السياسية هي جزء لا يتجزأ من تعقيدات تجعل من اتفاق الرياض يواجه حقل ألغام يحوي أطناناً من الديناميت المتفجر القابل على خلق أجواء مضطربة في حال انفجر لغم واحد في طريق التنفيذ.
اليمنيون يمتلكون من البراغماتية ما يجعلهم قادرين على التعاطي مع كل هذه التعقيدات بل وقادرين أكثر على الدخول في حقل الألغام ليس للمرور منه بل لتفجير الحقل بالكامل فهذه هي طبيعتهم وتلك تقاليدهم، فالتربص بالآخر وانتظار لحظة الانقضاض تظل ضمن أهم ما يمتلكونه خاصة وأنهم يعلمون أن نجاح اتفاق الرياض يعني تفويت ما صنعوه على مدار سنوات مضت وسبقت العام 2011 بكثير.
الجنوبيون الحائرون هم في وسط حقل الألغام وخطوتهم تختلف عن خصومهم فنجاحهم يعني نجاحاً لتيار الاعتدال العربي، والمرور من حقل الألغام يتطلب منهم قراءة عميقة في واقعهم سياسياً الذي عليه أن يكون صلباً فالخروج من حقل الألغام يضعهم في موقف اتخاذ قرارات صعبة وجريئة في هيكلة المجلس الانتقالي الجنوبي ليس لمجرد أنه حامل مفوض للقضية الجنوبية فحسب بل حامل لتيار الاعتدال العربي في جنوب الجزيرة العربية وأن فشله يعني أن يمتلك محور الشر هذا الجزء من العالم.
لا أحد يمتلك رؤية لمستقبل اتفاق الرياض حتى وأن وضعت الضمانات فما بين الجنوب والشمال أكثر من توترات سياسية تعود إلى عام 1994 فهذا اختزال لصراع مستدام مداه ألف عام مضت في حروب وقتال صنعت الحاضر الذي مازالت فيه أفاعي اليمن تريد عدن والمكلا مجردة من كل شيء في مقابل أن تتمدد وتبسط نفوذها المذهبي على طول ساحل بحر العرب ولو كان ذلك بالارتهان لمحور الشيطان.
*كاتب يمني
كان تحرير عدن في يوليو 2015 نقطة تحول لم تستوعبها الذهنية اليمنية، فهي تمثل منعطفاً في صراع المحاور، وما شكله ذلك المنعطف في الصراع بين القوى الداعمة لتيار الإسلام السياسي ومحور الاعتدال العربي ظل متفاعلاً في المحافظات الجنوبية كمساحة جغرافية تخوض على مدى عقود طويلة صراعاً مع الإيديولوجية المتطرفة.
أخضعت قوى الإسلام السياسي اليمن بكامله لإرادتها، وهذه الحقيقة كانت نتاجاً لما سمي بـ (الربيع العربي) في 2011 ، واستطاعت تلك القوى استثمار كافة الفرص الممكنة لتثبيت وجودها بما في ذلك مخرجات الحوار الوطني، حتى ما تم من انقلاب «حوثي» لم يخرج عن ذلك الإطار في مقابل أن يتسلم الشق الآخر من القوى «الإسلاموية» نصيباً وافراً من الجغرافيا، وهنا تبدو الصورة المفجعة في جنوب الجزيرة العربية بأن تتقاسم القوى الإقليمية هذه المساحة بين طرفين لديهما قاسم مشترك يتمثل في العداء للسعودية كمعقل رئيس لتيار الاعتدال العربي وكذلك كموقع استراتيجي يمكن المراهنة عليه في أتون الصراعات الواسعة في الشرق الأوسط.
هنا نعود للإشكالية الجوهرية في اليمن الذي بات فعلياً خاضعاً لقوى مناهضة للمحور العربي، والذي تأكد بشكل واضح، خلال السنوات الثلاث الأخيرة، فأظهر «الإخوان» مخالبهم وكشفوا مخططهم، وأصبحت حركتهم باتجاه رهن النقاط الأساسية (عدن والمكلا والحديدة) بمثابة معركة مفصلية لا تقبل الخروج عن معادلة التسوية النهائية في مشهد ما بعد الحرب.
استفاق الجميع على أحداث عدن 2019 وكأنها خروج عن النص المرسوم لخريطة تؤدي إلى ترسيخ حقيقة الأمر الواقع، بينما كان الآخرون يدركون أن تلك الأحداث جاءت بمقدمات تفاعلت بعوامل متداخلة أنتجت ما حصل في عدن حتى وإنْ حاولت الأطراف اليمنية توظيفها في إطارها المحلي.
جاء اتفاق الرياض بين حكومة يمنية تعاني من التنظيم الدولي للإخوان المسلمين وبين المجلس الانتقالي الجنوبي كجزء من عملية جراحية تأجلت ولكنها حصلت لهيكلة المؤسسة الشرعية اليمنية وتقليص نفوذ تيار الإخوان فيها وليس كما يظن البعض بتر كل نفوذهم، فما يمتلكه «الإخوان» من قوة عسكرية تقتضي هذا المسار الصعب.
شكلت تبعات توقيع اتفاق الرياض ـ فقط التوقيع ـ فرصة سانحة لمراقبة مدى ما يشكله الطرف المختطف للمؤسسة الشرعية اليمنية من خطر، فبشكل علني ظهر وزراء ومسؤولون على قدر رفيع في المؤسسة الشرعية في أحضان حزب «العدالة والتنمية» التركي وآخرون ظهروا في أحضان دولة حليفة للمشروع التركي، وكثير منهم كشفوا ما تخفيه صدورهم تجاه السعودية والإمارات، والأكثر من ذلك خطورة التحرك العسكري بمحاولة تثبيت قواعد الاشتباك التي لم تكن لمواجهة «الحوثيين» بل لمواجهة «الجنوبيين» في عدن وساحل حضرموت.
ولأنه اليمن بتعقيداته وجزئياته الصعبة على الاستفهام أفرز ـ فقط التوقيع ـ عن صراع، فأظهرت مرحلة ما بعد التوقيع عن صفقات فساد مالي وتهريب أموال بل وغسل أموال لتطفو على سطح اتفاق الرياض وقائع أخرى لم تكن منظورة في صراع ثنائي شهد استقطاباتها أن القدرة على توظيف الاستحداثات السياسية هي جزء لا يتجزأ من تعقيدات تجعل من اتفاق الرياض يواجه حقل ألغام يحوي أطناناً من الديناميت المتفجر القابل على خلق أجواء مضطربة في حال انفجر لغم واحد في طريق التنفيذ.
اليمنيون يمتلكون من البراغماتية ما يجعلهم قادرين على التعاطي مع كل هذه التعقيدات بل وقادرين أكثر على الدخول في حقل الألغام ليس للمرور منه بل لتفجير الحقل بالكامل فهذه هي طبيعتهم وتلك تقاليدهم، فالتربص بالآخر وانتظار لحظة الانقضاض تظل ضمن أهم ما يمتلكونه خاصة وأنهم يعلمون أن نجاح اتفاق الرياض يعني تفويت ما صنعوه على مدار سنوات مضت وسبقت العام 2011 بكثير.
الجنوبيون الحائرون هم في وسط حقل الألغام وخطوتهم تختلف عن خصومهم فنجاحهم يعني نجاحاً لتيار الاعتدال العربي، والمرور من حقل الألغام يتطلب منهم قراءة عميقة في واقعهم سياسياً الذي عليه أن يكون صلباً فالخروج من حقل الألغام يضعهم في موقف اتخاذ قرارات صعبة وجريئة في هيكلة المجلس الانتقالي الجنوبي ليس لمجرد أنه حامل مفوض للقضية الجنوبية فحسب بل حامل لتيار الاعتدال العربي في جنوب الجزيرة العربية وأن فشله يعني أن يمتلك محور الشر هذا الجزء من العالم.
لا أحد يمتلك رؤية لمستقبل اتفاق الرياض حتى وأن وضعت الضمانات فما بين الجنوب والشمال أكثر من توترات سياسية تعود إلى عام 1994 فهذا اختزال لصراع مستدام مداه ألف عام مضت في حروب وقتال صنعت الحاضر الذي مازالت فيه أفاعي اليمن تريد عدن والمكلا مجردة من كل شيء في مقابل أن تتمدد وتبسط نفوذها المذهبي على طول ساحل بحر العرب ولو كان ذلك بالارتهان لمحور الشيطان.
*كاتب يمني