يعتبر ميشيل بارنييه، كبير مفاوضي الاتحاد الأوروبي في مفاوضات «بريكست»، أشهر الأشخاص في بروكسل. وعلى مدار ثلاث سنوات، وضع الفرنسي رابط الجأش (68 عاماً) شروط مغادرة المملكة المتحدة، مؤكداً تماسك الدول الأعضاء السبع والعشرين الأخرى. وبارنييه هو الناجي الحقيقي من ملحمة بريكست.
ولاستمرار بارنييه في منصبه دلالة مهمة. فرغم التوقعات بأن البريطانيين سيمزقون الأوروبيين كثيري الخصام دوماً، ظل الاتحاد الأوروبي متحداً بينما غيرت بريطانيا رئيسي وزراء وثلاثة وزراء لشؤون بريكست وكابدت الفشل عدة مرات في محاولة للحصول على صفقة أفضل خارج التكتل. والجزء الصعب لم يأت بعد، فقد حقق الاتحاد الأوروبي أهدافه الرئيسة، مثل تحديد الالتزامات المالية للمملكة المتحدة، وتفادي العودة إلى حدود أيرلندية صلبة، وحماية حقوق المواطنين الأوروبيين. وبعد ذلك، ومع استعداد الاتحاد الأوروبي لفتح الباب أمام الخروج البريطاني، يتعين على بارنييه وفريقه أن يتفاوضوا الآن على صفقة جديدة لدعم العلاقات التجارية في المستقبل مع جارتهم القوية والمثيرة للمتاعب.
وخروج بريطانيا ليس مثل خروج ليختنشتاين، فلندن تعد أبرز مركز مالي لأوروبا، ومعاملات بريطانيا التجارية مع أوروبا تبلغ 600 مليار جنيه سنوياً، وتشكل البلاد 40% من القدرة العسكرية للتكتل، وهناك حوافز للحفاظ على التقارب بين الجانبين. والتحدي لبارنييه هو أن المملكة المتحدة لم تعد مجرد شريك بل هي «منافس على الأبواب» كما قالت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. وداخل الاتحاد الأوروبي، تكبد البريطانيون مخاطر ويتعين عليهم الوفاء بالتزامات مثل التدفق الحر للبضائع ورأس المال وتبني معايير صارمة لكل شيء من لعب الأطفال إلى مكافحة غسل الأموال إلى اتباع سياسة تجارة مشتركة مع 27 دولة أخرى. وخارج الاتحاد الأوروبي، سيكون البريطانيون أحراراً في وضع قواعدهم.
لكن ماذا لو رأى أنصار الخروج البريطاني أن أفضل طريقة لتعويض خسارة التجارة مع أكبر سوق لهم هي خفض الضرائب بشكل كبير واتباع نهج أخف قيوداً بكثير في كل شيء، من اللوائح المالية إلى معايير الغذاء؟ وأي صفقة للاتحاد الأوروبي ستكون باباً خلفياً للإغراق التجاري. وهذا هو السبب الذي يجعل الشاغل الأكبر لبارنييه هو التفاوض بشأن الحواجز غير الجمركية لتجارة المملكة المتحدة -أي القواعد واللوائح- وليس مجرد الرسوم نفسها. وحذر بارنييه في أكتوبر الماضي قائلاً إن «إمكانية الدخول إلى أسواقنا ستتناسب مع الالتزام بالقواعد المشتركة». وإذا كان بوريس جونسون يريد اتفاق تجارة دون حصة ولا رسوم بالمرة، فهذا يعني عدم افتراق مع الاتحاد الأوروبي حين يتعلق الأمر بالبيئة وحقوق العمال أو حتى إعانات الدولة. وهذا ليس مجرد تكتيك رخيص، بل انعكاس لحقيقة أن أكبر قوة للاتحاد الأوروبي تتمثل في السوق الموحدة وقدرتها على تصدير قواعدها حول العالم. و«تأثير بروكسل» هذا سيبدو سراباً إلى حد كبير إذا مضى أنصار بريكست في طريقهم.
لكن جونسون لن يجعل الأمور سهلة. فقد استبعد تجاوز الموعد النهائي الضيق للغاية، ومدته 11 شهراً، في محادثات التجارة. ولا شك في أنه سيتمتع بنفوذ نتيجة تمسكه بأمل أن الجمع بين ضغط الوقت على بروكسل وتلاشي أصوات المعارضين لبريكست في البرلمان البريطاني سيعطيه نفوذاً. واختيار جونسون يرتبط أيضاً باحتقار دونالد ترامب للاتحاد الأوروبي والدعم لاتفاق تجارة بين أميركا وبريطانيا. لكن بارنييه أمامه أوراق يناور بها أيضاً. وسيلتزم المفاوض الفرنسي الرصين الذي دأب على مقارنة المفاوضات بصعود الجبال بنهجه في الصبر. وفي غضون عام، لن يكون اقتصاد بريطانيا أقل تضافراً مع اقتصاد الاتحاد الأوروبي. وصادرات الخدمات المالية والقانونية البريطانية إلى الاتحاد الأوروبي تقدر بنحو 60 مليار جنيه سنوياً، وهذه ستتوقف على إذا ما إذا كان الاتحاد الأوروبي يفكر في وضع التزام تنظيمي وثيق.
وفي نهاية المطاف، لقدرة بارنييه في الحفاظ على السلام داخل الاتحاد الأوروبي أهمية تضاهي أهمية تصرفات جونسون. وسيزور بارنييه عواصم الدول الأعضاء السبع والعشرين مستخدماً الشفافية كوسيلة لضمان نهج مشترك، ومقدِّماً معلومات للبرلمان الأوروبي لتفادي أي مفاجآت في اللحظة الأخيرة. لكن المسعى شاق، لاسيما أن التأثير الاقتصادي سيبدأ في الظهور مع تعزيز الولايات المتحدة رسومها على البضائع من الاتحاد الأوروبي للحصول على امتيازات اقتصادية ومع تصاعد الانقسام السياسي بين باريس وبرلين حول طائفة من القضايا. وسيتعين على بارنييه أن يُظهر أن بمقدوره نقل الجبال كما بمقدوره تسلقها.
*صحفي يغطي شؤون الاتحاد الأوروبي.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»