طعم «السبت 9 ?نوفمبر ?2019» ?سيظل ?مُراً ?في ?فمي، ?يا ?صديقي ?الأثير، ?رغم ?أنه ?يصادف ?يوم ?مولدي، ?وكذا ?الحال –?ويا ?للصدفة- ?مع ?ابنك ?البكر «سند»! ?وكيف ?لا ?يبقى ?الطعم ?المر ?لذلك ?اليوم ?وقد ?رحل ?فيه ?صديق ?العمر، ?وأخي «?الذي ?لم ?تلده ?أمي»?، ?الحبيب ?زيد ?الكيلاني «?الطبيب ?الإنسان» ?الذي ?من ?شبه ?المستحيل ?مجاراته، «?رجل ?العلم ?والابتكار ?والإبداع» ?الذي ?عز ?نظيره، ?«?رجل ?الأخلاق» ?الذي ?لا ?يكاد يبارى، ?«?رجل ?التواضع» ?الذي ?يندر ?وجوده، ?«?رجل ?العصامية» ?الذي ?لا ?منازع ?له، ?«?جميل ?الروح» ?النادر ?إيجاد ?مثيل ?له! ?وعنك، ?أكرر: «?لطالما ?حلقت، ?يا ?صديقي، ?بجناحين ?من ?حياء ?وخَفْر، ?ولله ?درك ?من ?طبيب ?إذ ?وهبت ?العلم ?ما ?وهبت، ?ومنحت ?الوطن ?ما ?منحت»?، ?حقاً ?لقد ?كان ?الفقيد زيد الكيلاني ?كبيراً ?ومن «?العيار ?الثقيل».
لتعلم يا «أبا سند» أنه حين تناهى إلى مسمعي خبر موتك، انقض على ذاكرتي ودون وعي مني بيت شعر للخالد كامل الشناوي: «ليت يا يوم مولدي.. كنت يوماً بلا غد»! ربما لأنني، فجأة، زهدت في المضي في رحلة الحياة.. بعدك، وفجأة كذلك، تدحرجت الذكريات بين زوايا العتمة، وخواطر البوح، وتباريح الهم! لا الدمع كفكف آلام الرحيل، ولا الوجع الضارب في أعماق النفس خفف لوعة الفقد، ولا التوقف عند محطات الأصدقاء جلب شيئاً من السلوى! كل ما حولي أوحى بالذبول، حتى الكلمات تحشرجت، وجاهداً أحاول استعادتها من قاع التردد لتبقي على خيط الحياة الممدود!
منذئذ افتقدتني، أبحث عني ولا أجدني.. ولعلي –مع الزمن- أجد خيطاً يدلني، ولطالما تساءلت: لماذا يثير الموت هذه الرهبة الكبرى؟ ولماذا نبكي الراحلين وقد انتقلوا إلى محطات أخرى، نحن سائرون إليها شئنا أم أبينا؟ إننا في الحقيقة لا نبكيهم لأنهم رحلوا فحسب، بل نبكي أيضاً أنفسنا لأنهم تركونا وحدنا، وكل آلامنا ودموعنا وقلقنا نابع من حقيقة، أننا لن نراهم بعد اليوم في دنيانا، وقد كانوا بعض سلوتنا، أو جزءاً من حياتنا، أو بقية من رفاقنا.
تحدثني نفسي قائلة: مالي أراك جزعاً؟ مالي أراك اليوم «وهْناً على وهْن» حتى تكاد تتهاوى؟ ولم تزل تلك النفس تؤنبني، وتستبيح خصامي إذا ترقرق الدمع، وتلعثمت الكلمات، وانصرفت عن عالمي، وكأني في ساعة النهايات التي لا ريب فيها، ومع أن فاجعة رحيلك، أخي الحبيب أبا سند، أثارت غصة في الحلق، وانحساراً لمدد الرفقة الجميلة، وانطفاءً لومضة نبل إنساني، فإن عزائي أنك تركت الدنيا أحسن مما وجدتها، ورحلت عنها وأنت زائد فيها، ولم تكن يوماً زيادة عليها (كما تقول عبارة مصطفى صادق الرافعي الخالدة!)، أما عزائي الأكبر فيتجسد في أن حزني المقيم عليك سيتلاشى حين التقيك في «عالم الآخرة»، في زمن لا أظنه بعيداً.
أما عذاب فقدك المادي في أول حياتك وظروف الإنهاك، التي مررت بها أو مرت بك في رحلة تحصيلك وتخصصك العلمي، وأنت الذي ولدت وفي فمك ملعقة من رحيق العصامية الأكيدة، فلم يكن إلا دافعاً جميلاً لصنع الخير، وعندما أدركتك الدنيا، تجلى في مسيرتك تجاوزك حقوقك المالية لدى مرضاك أحياناً، وفي عطائك الكريم خارج مشفاك وعلى امتداد وطنك في أحايين كثيرة، وهل يبقى عطاء العلم (خاصة في مجال الطب) ما لم يلتحم بروح العطاء الإنساني متحاشياً التربح من المريض وعائلته؟! ولأنك في مهنتك الطبّية كنت الأخلاق متجسدةً، فقد بقيت في هذه الدنيا ذكراك بصفتك زارع الفرح والإنجاز.
لقد كنت، يا أيها الصديق الأثير، زاهداً إزاء المال (وإزاء ملذات الحياة الدنيا كلها)، لأنك اخترت تعزيز صفة «رجل العلم» في نفسك، متفرغاً له، ممارساً إياه بأخلاق «العَالِم»، وليس بأخلاق «التاجر»، مجسداً للتواضع حين نراه يمشي على قدمين! وكم رصدناك تمشي على الأرض هوناً، غير مختال بعلمك ولا بإنجازاتك، متصالحاً مع نفسك، يغمرك الهدوء في صوتك ومشيتك، لقد كنت بحق شخصية وطنية واجتماعية وإنسانية على مستوى الوطن كله، و«عيناً» مهيباً قريباً من كل القلوب، إذ تفانيت و«تفننت» في قضاء حوائج الناس، وسعيت للخير والعمل النافع من أجل مجتمعك ووطنك، أما عن حبك، بل عشقك لفلسطين، فهو موضوع يعجز عن وصفه قلمي، يا أيها «الأردسطيني» المنزرع في كل ذرة تراب على ضفتي، كامل ضفتي، نهر الأردن، النهر الذي يربط ولا يفصل بين ضفتيه، فلقد نجحت في تدوير «علمك» من عالم العقل إلى عالم السلوك، فجسدت بعلمك وسلوكك، سواء على الصعيد الشخصي أو الأسري أو التخصُّصي أو الاجتماعي.. «ثقافة زيدية كيلانية»، تمكث في الأرض وتنفع الناس، وتبعث تلقِّيات إيجابيّة في حياتك وبعد مماتك، فأنت قد قُددت من ماس بشري، وجرت مسيرتك على خطى أنقى أنواع الماس، وسيبقى بريقك الماسي الأصيل ساطعاً، مهما طال بيننا الفراق، واشتد الحنين، وسادت الأحزان، وزاد ظلام الأيام.
*كاتب وباحث سياسي
لتعلم يا «أبا سند» أنه حين تناهى إلى مسمعي خبر موتك، انقض على ذاكرتي ودون وعي مني بيت شعر للخالد كامل الشناوي: «ليت يا يوم مولدي.. كنت يوماً بلا غد»! ربما لأنني، فجأة، زهدت في المضي في رحلة الحياة.. بعدك، وفجأة كذلك، تدحرجت الذكريات بين زوايا العتمة، وخواطر البوح، وتباريح الهم! لا الدمع كفكف آلام الرحيل، ولا الوجع الضارب في أعماق النفس خفف لوعة الفقد، ولا التوقف عند محطات الأصدقاء جلب شيئاً من السلوى! كل ما حولي أوحى بالذبول، حتى الكلمات تحشرجت، وجاهداً أحاول استعادتها من قاع التردد لتبقي على خيط الحياة الممدود!
منذئذ افتقدتني، أبحث عني ولا أجدني.. ولعلي –مع الزمن- أجد خيطاً يدلني، ولطالما تساءلت: لماذا يثير الموت هذه الرهبة الكبرى؟ ولماذا نبكي الراحلين وقد انتقلوا إلى محطات أخرى، نحن سائرون إليها شئنا أم أبينا؟ إننا في الحقيقة لا نبكيهم لأنهم رحلوا فحسب، بل نبكي أيضاً أنفسنا لأنهم تركونا وحدنا، وكل آلامنا ودموعنا وقلقنا نابع من حقيقة، أننا لن نراهم بعد اليوم في دنيانا، وقد كانوا بعض سلوتنا، أو جزءاً من حياتنا، أو بقية من رفاقنا.
تحدثني نفسي قائلة: مالي أراك جزعاً؟ مالي أراك اليوم «وهْناً على وهْن» حتى تكاد تتهاوى؟ ولم تزل تلك النفس تؤنبني، وتستبيح خصامي إذا ترقرق الدمع، وتلعثمت الكلمات، وانصرفت عن عالمي، وكأني في ساعة النهايات التي لا ريب فيها، ومع أن فاجعة رحيلك، أخي الحبيب أبا سند، أثارت غصة في الحلق، وانحساراً لمدد الرفقة الجميلة، وانطفاءً لومضة نبل إنساني، فإن عزائي أنك تركت الدنيا أحسن مما وجدتها، ورحلت عنها وأنت زائد فيها، ولم تكن يوماً زيادة عليها (كما تقول عبارة مصطفى صادق الرافعي الخالدة!)، أما عزائي الأكبر فيتجسد في أن حزني المقيم عليك سيتلاشى حين التقيك في «عالم الآخرة»، في زمن لا أظنه بعيداً.
أما عذاب فقدك المادي في أول حياتك وظروف الإنهاك، التي مررت بها أو مرت بك في رحلة تحصيلك وتخصصك العلمي، وأنت الذي ولدت وفي فمك ملعقة من رحيق العصامية الأكيدة، فلم يكن إلا دافعاً جميلاً لصنع الخير، وعندما أدركتك الدنيا، تجلى في مسيرتك تجاوزك حقوقك المالية لدى مرضاك أحياناً، وفي عطائك الكريم خارج مشفاك وعلى امتداد وطنك في أحايين كثيرة، وهل يبقى عطاء العلم (خاصة في مجال الطب) ما لم يلتحم بروح العطاء الإنساني متحاشياً التربح من المريض وعائلته؟! ولأنك في مهنتك الطبّية كنت الأخلاق متجسدةً، فقد بقيت في هذه الدنيا ذكراك بصفتك زارع الفرح والإنجاز.
لقد كنت، يا أيها الصديق الأثير، زاهداً إزاء المال (وإزاء ملذات الحياة الدنيا كلها)، لأنك اخترت تعزيز صفة «رجل العلم» في نفسك، متفرغاً له، ممارساً إياه بأخلاق «العَالِم»، وليس بأخلاق «التاجر»، مجسداً للتواضع حين نراه يمشي على قدمين! وكم رصدناك تمشي على الأرض هوناً، غير مختال بعلمك ولا بإنجازاتك، متصالحاً مع نفسك، يغمرك الهدوء في صوتك ومشيتك، لقد كنت بحق شخصية وطنية واجتماعية وإنسانية على مستوى الوطن كله، و«عيناً» مهيباً قريباً من كل القلوب، إذ تفانيت و«تفننت» في قضاء حوائج الناس، وسعيت للخير والعمل النافع من أجل مجتمعك ووطنك، أما عن حبك، بل عشقك لفلسطين، فهو موضوع يعجز عن وصفه قلمي، يا أيها «الأردسطيني» المنزرع في كل ذرة تراب على ضفتي، كامل ضفتي، نهر الأردن، النهر الذي يربط ولا يفصل بين ضفتيه، فلقد نجحت في تدوير «علمك» من عالم العقل إلى عالم السلوك، فجسدت بعلمك وسلوكك، سواء على الصعيد الشخصي أو الأسري أو التخصُّصي أو الاجتماعي.. «ثقافة زيدية كيلانية»، تمكث في الأرض وتنفع الناس، وتبعث تلقِّيات إيجابيّة في حياتك وبعد مماتك، فأنت قد قُددت من ماس بشري، وجرت مسيرتك على خطى أنقى أنواع الماس، وسيبقى بريقك الماسي الأصيل ساطعاً، مهما طال بيننا الفراق، واشتد الحنين، وسادت الأحزان، وزاد ظلام الأيام.
*كاتب وباحث سياسي