ثمة عدد من الملاحظات حول نتائج الانتخابات التشريعية البريطانية الأخيرة، وأولها أن صدقية استطلاعات الرأي العام توضع مرة أخرى على المحك بعد أن حدثتنا في الأيام الأخيرة التي سبقت الانتخابات عن تضاؤل الفارق بين حزب المحافظين المتصدر للاستطلاعات وحزب العمال، فإذا بهذه الانتخابات تسفر عن فوز حاسم للمحافظين تحت قيادة بوريس جونسون النصير المتشدد للبريكست، بما يمكنه من تمرير كل ما يريده من مجلس العموم كي يتم الخروج في موعده.
وتتعلق الملاحظة الثانية بدروس الفوز الذي كان من نصيب أصحاب الخيار الحاسم وهم جونسون وأنصاره أما أنصار الخيارات المعلقة التي تعني أن كل الاحتمالات واردة وأننا سنعمل على اتفاق جيد للخروج يُعرض على الشعب فإن رفضه نلجأ لإجراء استفتاء ثان، فقد كان واضحاً أنهم فقدوا نسبةً يُعْتد بها من أنصار الخروج والبقاء معاً. وقد يؤكد هذا أن الحزب القومى الأسكتلندي، وهو من أنصار البقاء، قد حقق بدوره انتصاراً كاسحاً في الساحة الأسكتلندية وزاد عدد مقاعده من 35 إلى 48. وبعبارة أخرى فإن الانتخابات تثبت أن الوضوح والحسم هما أقصر الطرق لكسب ثقة الناخب. والواقع أن متابعة أداء جيرمي كوربن زعيم حزب العمال، بل وتريزا ماي الزعيمة السابقة لحزب المحافظين، تشير بوضوح إلى التردد وتذبذب المواقف والإصرار على تكرار خطوات ثبت فشلها وبناء المواقف على المصالح الحزبية والشخصية. أما جونسون، وبغض النظر عن الانتقادات القاسية الموجهة له من خصومه، فقد اتسم بالحسم والقطع في مواقفه كافة.
وتتعلق الملاحظات الأخرى بالبريكست، وما إذا كانت التفاعلات السياسية البريطانية سوف تكون سلسة بعده، ولا نعرف حتى الآن النسبة الحقيقية لمن صوتوا ضد المحافظين، أي ضد البريكست أساساً، ذلك لأن فوز حزب بالأغلبية المطلقة (50? من الأصوات+1) يعني إمكانية فوزه بكل المقاعد دون أن يحقق أكثر من هذه النسبة، أي أنه نظرياً يمكن أن يكون المهزوم قد حصل على 49? من الأصوات، وهو ما يذكرنا باستفتاء البريكست الذي حصل فيه أنصاره على حوالى 52? من الأصوات. وإلى أن تتضح النسبة الحقيقية للأصوات (وليس المقاعد)، سوف يبقى وزن معارضة سياسات البريكست بعد إنجازه معلقاً.
وإلى ذلك لا ننسى أن الحزب القومي الأسكتلندي قد هيمن على الساحة السياسية في أسكتلندا، وهو من أنصار البقاء إلى الحد الذي دفع زعيمته للإعلان غير ما مرة عن نيتها مطالبة البرلمان بإجراء استفتاء ثان للانفصال عن المملكة المتحدة، وهو ما أعلن جونسون رفضه، غير أنه من الناحية السياسية سوف يعني هذا مشكلة حقيقية بالنسبة لتماسك المملكة المتحدة، وسوف يصعب على ديمقراطية عريقة كالديمقراطية البريطانية أن تتجاهل رغبة شعبية كاسحة في أسكتلندا، ناهيك بأن يسير ما بعد البريكست وفقاً للسيناريو الأسوأ، فتزداد المعارضة الأسكتلندية وغيرها.
ويبقى بعد كل هذا أن نتائج الانتخابات حسمت قرار البريكست، وأسقطت فكرة إجراء استفتاء ثان، لكن بذلك تدخل بريطانيا الاختبار الصعب لما بعد البريكست. ونذكر أن محللين اقتصاديين ومؤسسات اقتصادية بريطانية وأوروبية ودولية عديدة ذات ثقل قد تنبأت بمصاعب اقتصادية جمة سوف تترتب على البريكست.
واتهم جونسون خصومه بالترويج لمقولات غير صحيحة لضمان الموافقة الشعبية على الخروج، وقد حانت الآن لحظة الحقيقة فإما أن يثبت أن خصوم البريكست كانوا مبالغين وأن الأمور تتطور على نحو شديد الإيجابية، كما روج جونسون وأنصاره، فيستقر مسار ما بعد البريكست، وقد يعمل في اتجاه تعزيز هذا السيناريو التأييد الواضح من الرئيس الأميركي لخيار الخروج ووعده البريطانيين باتفاق تجارة حرة تفوق مزاياه بكثير أي اتفاق أوروبي.. وإما أن تتحقق مخاوف خصوم البريكست وتواجه بريطانيا مشاكل اقتصادية صعبة تدفع إلى مراجعات جديدة لن تكون غريبة على السياسة البريطانية التي تذبذبت مواقفها من العلاقة مع أوروبا من رفض ركوب قطار التكامل الأوروبي في أول محطاته (اتفاقية روما 1957) إلى طلب العضوية عام 1961، والتي لم تحصل عليها (بسبب معارضة ديجول) إلا في عام 1973 بعد مغادرة الزعيم الفرنسي المشهد السياسي. ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن ظلت العلاقة البريطانية بأوروبا مسألة قلقة، كما انعكس ذلك في عديد من التحفظات البريطانية على خطوات التكامل الأوروبي. فهل يكون الخروج القادم هو الفصل الأخير؟
*أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة