ليس من الصعب فهم لماذا اختار ديمقراطيو الكونجرس التحرك بسرعة والمضي قدماً في إجراءات العزل من دون انتظار المحاكم لتفرض على الشهود الرئيسيين الإدلاء بشهاداتهم بقوة القانون. ذلك أن حملة انتخابات 2020 باتت تلوح في الأفق، والمواطنون الأميركيون يريدون أن يسمعوا عن شيء غير أوكرانيا، وطول أمد العملية لن يعمل سوى على تقوية حجج من يقولون إن الناخبين، وليس مجلس الشيوخ، هم من ينبغي أن يقرروا ما إن كان ينبغي عزل الرئيس ترامب من منصبه.
غير أنه من المؤلم التفكير في أن مسؤولين كباراً قد يستطيعون التملص من استدعاءات الكونجرس ومن المحاسبة، وأن مناطق مظلمة واسعة يمكن ألا يسلط عليها الضوء من قبل الكونجرس لتظل مجهولة.
لنبدأ بفرضية أن مطالبة ترامب للرئيس الأوكراني فلودومير زيلينسكي بفتح تحقيقات مسيّسة مقابل مساعدات عسكرية أميركية ولقاءٍ في البيت الأبيض، لم تكن سوى المقايضة الأحدث ضمن سلسلة مقايضات فرضها البيت الأبيض. صحيفتا «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» كتبتا حول الاتصالات بين ترامب ومحاميه رودي جولياني، وكل من سلف زيلينسكي وبيترو بوروشينكو.
وكان جولياني التقى بوروشينكو في مناسبتين على الأقل عام 2017. أحد اللقاءين كان في شهر يونيو، بعد فترة قصيرة على اجتماع جمع ترامب وبوروشينكو في البيت الأبيض. وخلال الفترة بين اللقاءين، أمر المدعي العام الأوكراني يوري لوتسينكو بتحويل تحقيق أوكراني في عمليات دفع مال سرية لمدير حملة ترامب السابق بول مانافورت، من مكتب خاص لمحاربة الفساد إلى مكتبه، حيث توقف بسرعة.
الاجتماع الثاني لجولياني وبوروشينكو، كان في أواخر 2017، وقد تم بعد فترة قصيرة على توجيه الاتهام لمانافورت في الولايات المتحدة، وبينما كان الأوكرانيون يحاولون الحصول على الموافقة الأميركية لشراء صواريخ «جفلن» المضادة للدبابات. ووفق شهادة في تحقيق العزل، فإن عملية البيع عُلقت لبعض الوقت من قبل «مكتب التسيير والميزانية»، وهو الوكالة نفسها التي أوقفت مساعدات عسكرية الصيف الماضي. ووفق «نيويورك تايمز»، فقد أفرج عن صواريخ «جفلن» في نهاية المطاف في أبريل 2018، حيث أمر لوتسينكو بتجميد القضايا المتعلقة بمانافورت.
ووفقاً للشهادات فإن ترامب قال لزيلينسكي، مشتكياً في مكالمتهما الهاتفية بتاريخ الـ25 من يوليو: «لقد سمعتُ أنه كان لديكم مدع عام جيد جداً وأنه أُسكت.. وهذا حقاً أمر مجحف». وكان أحد أول قرارات زيلينسكي كرئيس إقالة لوتسينكو.
المدعي العام الأوكراني يُحمَّل أيضاً مسؤولية استدعاء ترامب للسفيرة ماري يوفانوفيتش. لكن القصة الكاملة وراء إعفائها ما زالت غير معروفة. رئيس تحقيق العزل آدم شيف («الديمقراطي» عن ولاية كاليفورنيا) يقول إن السفيرة نُحيت من منصبها من أجل إفساح الطريق لمحاولة ترامب ابتزاز زيلينسكي. غير أنه وفق «واشنطن بوست»، فإن ترامب بدأ يطالب بتنحية يوفانوفيتش قبل عام على ذلك، عقب لقائه مع رجلي أعمال مهاجرين سوفيتيين غامضين، هما ليف بارناس وإيغور فرومان.
يوفانوفيتش أفادت ضمن شهادتها بأنه لم يسبق لها أبداً أن التقت الرجلين، وبأنها لا تعرف شيئاً عن محاولاتهما الغامضة إبرام صفقة لتصدير الغاز الطبيعي المسال إلى أوكرانيا. لكن يبدو أنهما مَن رتّب اجتماعات لحساب جولياني مع لوتسينكو ومدعين عامين سابقين آخرين وفّروا قصصاً كاذبة حول يوفانوفيتش وجو بايدن وانتخابات عام 2016 الرئاسية الأميركية. وكل ذلك بعد أن بدأ ترامب استهداف يوفانوفيتش.
أحد مَن يستطيعون إلقاء الضوء على هذا الأمر هو ريك بيري، وزير الطاقة الذي أعلن استقالته الشهر الماضي ويبدو عازماً على التواري عن الأنظار وعدم تلبية استدعاء الكونجرس. ووفق شهادة موظف السفارة الأميركية ديفيد هولمز، فقد استغل بيري اجتماعاً مع زيلينسكي لإعطائه قائمة بأسماء «أشخاص يثق فيهم» بخصوص مسائل الطاقة. وأفاد هولمز بأن موظفي السفارة استُبعدوا لاحقاً من الاجتماعات التي عقدها بيري مع «مصادر مهمة من قطاع الطاقة الأوكراني». هذا وأشارت شهادة أخرى ضمن تحقيق العزل إلى بيري باعتباره وسيطاً رئيسياً مع جولياني في رعاية المقايضة مع زيلينسكي.
وفي النهاية قد نعرف أشياء أكثر عن أوكرانيا من المدعين الفيدراليين في نيويورك، الذين وجهوا تُهماً لبارناس وفرومان، ويقال إنهم ينظرون الآن إلى جولياني. لكن على المرء أن يتساءل حول ما إن كان «الديمقراطيون» يرتكبون خطأً لأنهم لا يبحثون هذه المسائل بأنفسهم. صحيح أن من شأن ذلك إبطاء إجراءات العزل. لكن نظراً لأنه ليس ثمة أية فرصة تقريباً لقيام مجلس الشيوخ بعزل ترامب، فالأهم هو أن يكون الأميركيون على اطلاع كامل على تفاصيل «الملف الأوكراني» قبل أن يذهبوا إلى مكاتب الاقتراع في انتخابات الرئاسة في نوفمبر المقبل. وهذا هدف قد يستحق بعض الدعاوى القضائية لفرض الاستدعاءات بقوة القانون ولمزيد من التحقيق على الأقل.
*محلل سياسي أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»