الآن وقد تجنبت ألمانيا ركوداً اقتصادياً، أُجلت القرارات السياسية بشأن التحفيز المالي. غير أن مشغِّلي البلاد ونقاباتها ما زالوا يطالبون ببرنامج للاستثمار في البنى التحتية بقيمة 450 مليار يورو على الأقل (498 مليار دولار) على مدى 10 سنوات، ليس من أجل إعطاء دفعة فورية للنمو، ولكن من أجل الحفاظ على تنافسية البلاد في المستقبل.
رقم الـ450 مليار يورو مستمد من تقرير جديد أعدَّه بشكل مشترك «المعهد الاقتصادي الألماني» في كولونيا، المقرب من لوبيين كبيرين للمشغِّلين، و«معهد السياسة الاقتصادية الكبرى»، وهو جزء من مؤسسة مرتبطة بأحد الاتحادات العمالية. وخلال تقديمه هذه الدراسة مؤخراً، قال ديتر كمف، رئيس «فدرالية الصناعات الألمانية»، التي تمثل اللوبي الصناعي الرئيسي في البلاد، إن ألمانيا تحولت إلى «بلاد شخير» في حالة رضا عن النفس، وقد حان الوقت لكي تستيقظ.
«المنتدى الاقتصادي الألماني» صنف ألمانيا في المرتبة السابعة عالمياً من حيث تنافسية الاقتصاد هذا العام، متراجعةً من المرتبة الثالثة في عام 2018. ووفق المنتدى الاقتصادي العالمي، فإن أكبر نقطة ضعف تعاني منها ألمانيا هي تلك المتعلقة بتبني تكنولوجيا المعلومات والاتصال، حيث تحتل المرتبة 36 في العالم، ذلك أن ألمانياً واحداً فقط من أصل 100 لديه اشتراك في خدمة الإنترنت السريعة عبر الألياف البصرية، مقارنة مع مواطن واحد من بين كل 32 في كوريا الجنوبية.
ويصف «المنتدى الاقتصادي العالمي» البنية التحتية المادية باعتبارها واحدة من نقاط قوة ألمانيا، ولكن الألمان يحبون أن يشتكوا منها، إذ يشيرون على سبيل المثال إلى أن متوسط عمر جسور السكك الحديدية في بلدهم هو 60 عاماً وأن نحو 10 آلاف منها بنيت قبل الحرب العالمية الأولى. غير أن الطرق والنقل العام ليس هو ما يتطلب أكبر الاستثمارات أيضاً: إذ يقدّر المعهدان تلك الاحتياجات بنحو 100 مليار يورو بين عامي 2020 و2030.
بل إن الحاجة الأكبر للاستثمار تأتي من البلديات الألمانية. ففي وقت قوّت فيه الحكومة الفدرالية والولايات أوضاعها المالية تحت حكومة المستشارة أنجيلا ميركل، عبر إدخال كوابح على الاستدانة وإيجاد ميزانيات خالية من العجز، لا يصل ما يكفي من المال إلى المستوى المحلي. ومع أن الحكومة الفدرالية أدركت المشكلة وتولّت التمويل الكامل لبعض البرامج الاجتماعية، مثل معاشات الشيخوخة وتأمين البطالة، إلا أن الالتزامات الاجتماعية الحالية للبلديات ما فتئت تتزايد، ما اضطرها إلى إرجاء الاستثمار في صيانة المدارس والشوارع وأنظمة توصيل المياه. وراكمت البلديات –لاسيما بلديات المدن الصناعية التي خسرت من جراء العولمة– نقصاً في الاستثمار يقدّر بنحو 138.4 مليار يورو، وذلك وفق دراسة على الصعيد الوطني للمجتمعات تمت الإشارة إليها في تقرير المعهدين.
وحتى حينما يكون المال متوافراً في ميزانيات البلدات والمناطق، فإن العديد من البلديات تفتقر إلى الموظفين والخبرة من أجل التخطيط لبرامج استثمار على نحو جيد، كما أن الشركات التي يمكن أن توفر الوظائف حذرة بشأن التوسع خشية تقليص طلبيات البلديات من جديد. والحال أن من شأن برنامج فيدرالي كبير لسد عجز الاستثمار معالجة ذلك.
والواقع أن ألمانيا ليست في حالة سيئة. فهي لا تبدو كذلك، رغم أن انتشار الحفر في الشوارع ليس أمراً نادراً، وقطاراتها تسجل تأخيراً في كثير من الأحيان، وتغطية شبكة الهاتف المحمول فيها متقطعة خارج المدن. غير أنها لا تبدو محصّنة ومستعدة من أجل المستقبل بما يكفي أيضاً، حتى بعد عقد ونصف العقد من حكم ميركل الناجح عموماً. وإذا كان «المنتدى الاقتصادي العالمي» يصف الاستقرار المالي الكبير (البلد حصل على 100 نقطة من أصل 100 في تصنيف التنافسية) باعتباره واحداً من أكبر نقاط قوة ألمانيا، فإن ذاك الاستقرار تحقق، جزئياً، عبر نقل المشاكل إلى المستوى المحلي.
إن من شأن البرنامج الاستثماري الذي يقترحه المشغِّلون والنقابات في ألمانيا أن يكلف نحو 1.3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي سنويا، بمستوى الإنتاج الاقتصادي الحالي. وهذا ليس ثمناً مستحيلا للتحصن والاستعداد للمستقبل في وقت تبدو فيه معدلات الفائدة مساعدة للغاية. وعليه، فإذا كانت أنجيلا ميركل ترغب في فوز حزبها «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» في انتخابات عام 2021، وإذا كان وزير المالية أولاف شولز يرغب في أن تكون لحزبه الديمقراطي الاجتماعي فرصة للتنافس، فعليهما أن يدرسا المقترح بشكل جدي، لأن الناخبين ربما يرغبون في النهوض والإشراق من «بلاد الشخير».
*محلل سياسي روسي مقيم في برلين
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»