أطلق الاجتياح التركي لشمال شرقي سوريا سلسلة نقاشات في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فضلاً عن حلف شمال الأطلسي، وحتى في إسرائيل. وقد ظهر انقسام داخل الإدارة الأميركية حول تداعيات الانسحاب من سوريا، وبالتالي من منطقة الشرق الأوسط، متفرعاً إلى الموقف من روسيا وسياساتها، واستطراداً إلى تأرجح تركيا بين غرب وشرق. وجاءت تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن «حال الموت السريري» لحلف «الناتو» لتضيف بُعداً آخر إلى تشخيص مأزق غربي مسكوت عنه، ويعزى عموماً إلى «الانقلاب» الذي أحدثته سياسات/ لا سياسات الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الاستراتيجية الغربية، من دون استراتيجية بديلة واضحة.
وفي خلفية هذه السجالات حلّت الذكرى الثلاثون لهدم جدار برلين، لتنذر بأن العقلية والقيم والسياسات التي عكسها هذا الجدار في حينه لا تنفك تُستعاد على نحو متوسّع. كان انهياره المشهد الرمزي الحاسم للانتصار الاستراتيجي الغربي والهزيمة التاريخية للمعسكر الاشتراكي السوفييتي، لكن يشار اليوم إلى عشرات الجدران التي أقيمت وتُقام، من ذلك الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية إلى ذاك الأميركي مع المكسيك، إلى تلك غير الإسمنتية بين سبع دول أوروبية تصدّياً لتدفقات اللاجئين، وكذلك بين روسيا ودول البلطيق.. وقد عنت كلها تراجعاً عميقاً في القيم وفشلاً مريعاً في حلّ نزاعات إقليمية مناط إنهاؤها بدول غربية كبرى تجد مصالح لها في إبقائها مشتعلة، فضلاً عن فشل أكبر في التعامل مع ظاهرتَي اللجوء والهجرة المتزايدتين.
وثمة نظام دولي يبحث عن هوية، عن قواعد مبدئية، عن ركائز، وعن أطراف متوافقة على أهدافه ومستعدة للمشاركة. ظاهرياً يواصل أعضاء «النظام الغربي» تأكيد أنه قائم وفاعل، لكنه تغيّر واقعياً، سواء من داخله بفعل الترامبية التي رسمت سريعاً علامات استفهام حول «الجدوى» من «الناتو» ومن الاتحاد الأوروبي ومن النفوذ الأميركي (والغربي) في العالم، طالما أنه لا يُترجم بمليارات تدخل الخزينة الأميركية. ومع أن شكواه من «النفوذ المجاني» تستند إلى عقلية رجل الأعمال لا إلى حكمة رجل السياسة، فإن شعبويتها حصدت له شعبية ولم تعزّز مكانة أميركا ومصداقيتها. ولا أدلّ على ذلك من تخبّط استراتيجيات إدارته حيال الصين وكوريا الشمالية، ومن غموضها مع روسيا، وتقلّباتها مع الحلفاء الأوروبيين، وعدم فاعليتها في العراق وسوريا وأفغانستان، وتقويضها مقوّمات «السلام» بين الفلسطينيين وإسرائيل.
وتقف الدول الحليفة للغرب حائرةً، وإلى حدٍّ كبير مشلولةً، أمام «قيادة أميركية» تقود ولا تقود، تمسك بالخيوط وتحركها عشوائياً ولا تحرّكها. لا مشكلة للحلفاء الأوروبيين وغيرهم مع رفض ترامب «المبدئي» للحروب، بل مشكلتهم في أنه لا يرفض نشوبها على حساب الآخرين، والأهمّ أنه ماضٍ في زعزعة المنظومات الدفاعية المقامة خلال الحرب الباردة وبعدها، وليست لديه بدائل سياسية ولا عسكرية توقف التوسّعات المناهضة أو تصدّها، رغم أن حروبه الاقتصادية تواصل رسم جبهات لحروب فعلية محتملة. والأسوأ شيوع الاعتقاد بأن الفوارق بين ترامب وبعض نظرائه في الدول المنافسة، تتلاشى، أي أن مفهومهم للنفوذ يتقارب، صحيح أن الآخرين لا ينطقون باسم «مبادئ الحرية والعدالة وحقوق الإنسان»، لكنهم لا يؤمنون بأن هناك شيئاً اسمه «نفوذ معروض للبيع»، بل ينفقون على توسّعهم الدولي ويجنون مصالح وهيمنة.
في خضم هذه الاعتبارات جاءت انتقادات الرئيس الفرنسي لأداء «الناتو» بمثابة صدمة، لأنه قال علناً ما يفكّر فيه الآخرون ضمناً. إذ بدت ذكرى جدار برلين مناسبة لمراجعة أخطاء ما بعد نهاية الحرب الباردة (توسيع «الناتو» والاتحاد الأوروبي من دون الأهداف) ومؤشّرات تجدّدها في غياب وضوح أميركي وتصدّعات غربية عديدة. أشار ماكرون إلى «قلة التنسيق» بين أميركا وأوروبا وإلى «السلوك الأحادي» لتركيا في سوريا. انفردت موسكو بالترحيب بما أفضى به ماكرون، أما وزير الخارجية الأميركي فحذّر، وهو على بعد أمتار من بقايا جدار برلين، من أن «الناتو يواجه الانقراض إذا لم يتكيّف مع الواقع». و«الواقع» الذي يعنيه مايك بومبيو هو «التهديدات» الآتية من روسيا والصين، لكن دعوته أميركا وحلفاءها إلى الاعتراف بأنهم «في تنافس على القيم مع دول أخرى غير حرّة» لم يَبدُ مقنعاً للمستشارة الألمانية التي قالت: «علينا أن نحل مشاكلنا، علينا أن نتعافى».
*محلل سياسي -لندن