في الثاني عشر من شهر ربيع الأول من عام الفيل، أو السنة 570 من الميلاد.. تشرف الكون وأشرقت الدنيا بمولد إمام النبيين وسيد المرسلين محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي، بجوار بيت الله الحرام في مكة المكرمة، وفي هذه اللحظة السنيّة قُدّر لمنطقة الشرق العربي وما جاورها من البلدان أن تترقب وتشهد التغيير الجذري في نمط حياتها العامة، وتسجل لأيامها تاريخاً جديداً يُغير أنماط حياتها رأساً على عقب.
وعندما حان موعد البعثة وتكليفه صلى الله عليه وسلم بتبليغ رسالته إلى أهله أولاً ثم إلى من حوله من الناس وإلى الناس كافة، كانت عُمان وجنوب شرق الجزيرة العربية ومناطق الخليج وسواحله ومن يليها من الناس من أوائل من كان لهم شرف استقبال الدعوة إلى الإسلام واتخاذه منهجاً ودستوراً لحياتهم، وكانت الإمارات أو البقعة التي تُشكل الإمارات حالياً من بين أكثر المناطق التي تبنت الدعوة واستضاءت بنور الإسلام وانتشر يومئذ في ربوعها، بين دبي وما يليها من المناطق حسب ما ذكر ذلك المؤرخ العُماني المعروف الشيخ عبدالله بن حميد السالمي في كتابه «تحفة الأعيان بسيرة أهل عُمان».
وقد أجمع كثير من جمهور العلماء على أن الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، أمر مندوب الأخذ والعمل به باعتبار أنه صلى الله عليه وسلم كان يتذكر يوم مولده الذي صادف الاثنين في الأسبوع الذي ولد فيه، وكان يصوم هذا اليوم، وباعتبار أنه سُرَّ كثيراً أن يرى جموع الناس الذين استبشروا بمقدمه المبارك يوم هجرته إلى المدينة في العام الأول للهجرة، وسروره الكثير للأناشيد والدفوف والحركات الإيقاعية التي لقيه الجمهور بها صلى الله عليه وسلم.. ومن بين هذه الأناشيد المشهورة:
طلع البدر علينا من ثنيّات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع
جئت شرّفت المدينة مرحباً يا خير داع
وجاءت المذاهب الفقهية ومدارسها المختلفة لتتخذ من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم منهجاً، ولتعرف مختَلف الناس أن هذه السيرة هي الرحمة المهداة وهي السماحة والموئل لمن أتعبته الدنيا، ولمن يريد أن يستبدل الشقاوة بالسعادة في دنياه وآخرته، ولمن يرغب في أن يشرب من المنبع الصافي الزلال الذي لا تكدّره الأحقاد ولا الضغائن ولا التكالب على زخارف الدنيا وزيفها.. ولكل ذلك فقد كان للاحتفاء بيوم المولد النبوي الشريف مكانة خاصة في قلوب أهل الإمارات، وفي ثقافتهم ووجدانهم على مر الزمان، احتفالاً بمولده صلى الله عليه وسلم، وسيراً على نهج سلفهم الصالح.
المولد النبوي في الإمارات
بجانب بعض الفلكلورات الشعبية، المعروفة في ثقافة التراث، كالعيّالة والحربية ولييلال التي ترمز إلى الحرب والاقتتال، كانت هناك أيضاً، بل أولاً، حفلات المولد النبوي الشريف الداعية إلى السلام والمحبة وترسيخ مشاعر الأخوة ونبذ التفرقة بين الناس، وهذه العادات والتقاليد كانت موروثة في كل مناطق الإمارات منذ القدم، ولم يتراجع حضورها في بعض المناطق إلا بعد ظهور بعض دعوات التشدد في القرن التاسع عشر وما رافق ذلك أحياناً من سعي لحمل الناس بالقوة على تغيير أنماط حياتهم واتجاهاتهم الدينية من الوسطية والاعتدال إلى التشددية والغِلظة في الدعوة.
المولد في فكر الشيخ زايد ووجدانه
لقد عُرف عن المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، وأسكنه جنات النعيم، حرصه على اتباع طريقة آبائه وأهله عن طريق الاحتفال بالمولد النبوي الشريف واعتبار يوم مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً مباركاً يبتهج فيه المسلمون ويحتفلون به كل عام، وأمر أن يجعل هذا اليوم يوم عطلة رسمية.. وكذلك فإنه، رحمه الله، كان يشارك بصفة مباشرة في المولد مع عُلية القوم إذا حضر حفلاً أقيم وهو موجود فيه.. وقد رأيت الشيخ زايد في صف الرديدة (الصف المقابل لحملة السماع والمنشدين) في حفل المالد الضخم الذي أقيم في احتفالات زواج المغفور له الشيخ مكتوم بن راشد في زعبيل، وقد جلس الشيخ زايد في مكان الفيصول، وكان ضابطاً ذا مران عالٍ على الأداء الإيقاعي لصف الرديدة، إذ كان أداء الفيصول في غاية الأهمية لنجاح هذه الحركة الإيقاعية. (والفيصول هو ضابط الصف الذي تتبعه الرديدة).
ويروي الأستاذ راشد أحمد الجميري، وهو باحث إماراتي في شؤون الفلكلور الشعبي والمالد.. أن المالد عُرف في أبوظبي وعند آل نهيان وحبهم للعلماء والسادة والموالد، إذ كان المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، من محبي فن المالد ويشجع على إحيائه وورث ذلك عن أجداده، ويروي الشيخ عبدالرحيم المريد هذه الحكاية: «ومرة حين تولى زايد الحُكم أرسل لنا لكي نحضر عنده، وذهبنا من هنا تقريباً 80 شخصاً في سيارة بدفورد كبيرة أتذكر منهم خليفة كريف وحميد الطاير وبن طوق، وخرجنا وقت الظهر من دبي ووصلنا إلى أبوظبي في العاشرة ليلاً لأن الطريق كان رملياً، ولأننا كنا متأخرين، أمر الشيخ زايد أن يأخذونا إلى المبيت في (المضيف)، وفي اليوم التالي قرر الشيخ زايد أن يذهب إلى العين وذهبنا إلى العين ووصلنا وقت المغرب. ثم انتظرنا طويلاً ولم يجْهز الشيخ زايد، وذلك لأنه كان عنده العديد من الزوار والمقابلات، حيث حضر لمقابلته أناس من كل مكان، وحين أصبحت الساعة الواحدة والنصف صباحاً قالوا لنا تفضلوا في القصر.
ذهبنا وجلسنا وبدأنا المالد، وبقينا حتى الفجر، وفي اليوم التالي طلبنا منه الإذن بالرحيل ولكنه رفض وطلب أن نؤدي المولد في بيت والدته ثم بيوت أخرى وبقينا في العين مدة أربعة أيام نؤدي المالد».
وها هو سمو الشيخ عبدالله بن زايد يسير على منوال والده وأجداده في إحياء ذكرى المولد الشريف بالحفلات البهيجة، وبهذا يجسد الشيخ عبدالله سياسة السلام والوئام والمحبة والبعد عن الكراهية والبغضاء والمشاحنات، وهي السياسة والمرام اللذين تأخذ بهما الإمارات وتسير على منوالهما.. وهي السياسة المعبرة عن قيم الإنسانية الجامعة، وروح الإسلام الغراء الناصعة، التي تنفع الناس وتمكث في الأرض، (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْض).
رحم الله الشيخ زايد وأجزل له الثواب والأجر، وجزاه خير الجزاء عن الإسلام والمسلمين.
*كاتب إماراتي