عبرت البشرية إلى الألفية الثَّالثة، أي أكثر مِن ألفي سنة مِن تراكم الفكر الأخلاقي والفلسفي، وما تركته الحضارات قبل الميلاد. مع ذلك ظلت الكراهيَّة ترسب وتطفو، وضحايا الدَّعوة إلى التَّعايش، عبر التَّاريخ، لا يحصون عدداً، وأخذت تشتد في يومنا هذا، فمَن ينظر إلى ما يُصرف على فضائيات الكراهيَّة ومنابر خطبائها يجد نفسه عاجزاً عن مقاومتها بثقافة التَّسامح الدِّيني، مِن هذا كم تكون الحاجة ماسة إلى تدارك النَّاس مما يريده بهم التَّطرف الدِّيني!
هذا بعضُ ما طُرح في ندوة «الفرص والتحديات لتعزيز التسامح الديني» (15- 16أكتوبر 2019)، التي أقامها «مركز الملك فيصل للدراسات والبحوث» بالرِّياض، وطرحنا فيها مِن الماضي ما يمكن التَّأثير به على الحاضر، لأن التَّطرف ينزع إلى ممارسات ومقالات الماضي، وأخذه شاهداً في التأثير على الوسط الاجتماعي المتدين، وكأن الأديان ظهرت للحروب وليس للتعايش، على اعتبار أن الاختلاف الدِّيني المَشُوب بالعنف هو الواقع في الماضي والحاضر، وليس العكس.
نشير هنا إلى مرسومين، واحد ظهر بالغرب والثَّاني بالشّرق، والفرق بينهما أكثر مِن ثلاثة قرون، ولا توجد صلة بينهما، إنما كلٌ منهما عالج واقعاً خاصاً. في العام (313 ميلادي) اتفق الملكان: قسطنطين وليقينيوس بميلانو، على إصدار «ميثاق ميلانو»، والذي منح الحريَّة الدينية للمسيحيين، بعد أن كانوا يعذبون ويُلاحقون، وأن مِن حق المسيحي والوثني العبادة التي يراها، وجاء في الميثاق:
«رأينا مِن الحِكمة والصَّلاح ألا نرفض لأي مواطن، مسيحياً كان أو متعبداً لآلهة أخرى، حقَّ ممارسة الدِّيانة التي تُناسبه على أفضل وجه... أصررنا على إعلامكم بالأمر، على أوضح وجه، لكي تكونوا على بينَّة مِن أننا نترك للمسيحيين الحرية التَّامة والمطلقة في ممارسة شعائرهم الدِّينية، ولما كنا قد منحنا هذا الحق للمسيحيين فليس يفوت سيادتكم، بالطَّبع، أن ما يحق لهؤلاء يحقُ للآخرين أيضاً»(لوكلير، تاريخ التَّسامح في عصر الإصلاح).
أصبح قسطنطين مسيحياً ووقع معه ليقينيوس، الذي ظل على وثنيته، قرار الحرية الدِّينية، وكان الأخير يُعد مِن الأوساط المثقفة. لكنْ عاد الأمر معكوساً عندما اتخذ الملوك المسيحية عقيدة، فصاروا يضطهدون بها غيرهم مِن الأديان، والسَّبب أنها أصبحت راية سياسية تنشر أمام الجيش، كي يشتد في القتال.
بعد ثلاثمائة عام صدرت «صحيفة يثرب»، كمرسوم ينظم العلاقة بين مجتمع المدينة، بغض النظر عن نوع الدِّيانة، جاءت الصّحيفة لحلِّ ما كان قائماً بين الفئات الاجتماعية والدينية، من نزاعات. هيأت الصَّحيفة المذكورة المجتمع بالمدينة، إلى التَّضامن والتّّكافل الاجتماعي، مع الاحتفاظ بالعقائد الدِّينية وخصوصيتها، والاحتفاظ بحرية المقدسات لكلِّ ديانة.
صحيح أن المدينة كانت حينها، حسب بنود الصَّحيفة الثلاثة والخمسين - اقتبسناها من سيرة ابن هشام «السيرة النَّبويَّة»- مقتصرة على المسلمين والمشركين واليهود، لعدم وجود المسيحية وغيرها وقتذاك بالمدينة، لكن البنود الخاصة بالدِّيانة يمكن القياس عليها، حتى لو تعددت أديان منطقة ما إلى العشرات، فما زال يوجد أساس للاتفاق، فلا يضر كثرة الديانات أو قلتها. أما عن تأكيد شمول المشركين في الصحيفة فجاء في البند(19): «لا يُجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً، ولا يحول دونه على مؤمن».
سميت الصَّحيفة بعدة أسماء، وردت في «السيرة النَّبوية» لابن إسحق (ت151هـ) وابن هشام(ت213هـ) بالكتاب والصحيفة، وفي «الأموال» لأبي عبيد بن سلام (ت224هـ) بالكتاب، ومَن سماها بالموادعة، والوثيقة، والميثاق، والمعاهدة، والدستور، والتسمية الأخيرة جاءت ممَن اعتبر المدينة آنذاك دولةً إسلامية. أما تاريخها فالسنة الأولى للهجرة.
تضمن العديد مِن بنود الصَّحيفة الدِّيانة اليهودية واليهود، وأشارت إليهم بالمساواة مع المسلمين، وكذلك من غير المسلمين مِن قريش والذين يُقيمون بالمدنية، قبل الإسلام، فإذا كانت الصحيفة كُتبت في مستهل العام الهجري الأول، فيمكن أن يكون هناك مَن لم يدخل الإسلام بعد، وعلى وجه الخصوص قبل «بدر»(3هـ).
أهم ما أنتجه المرسومان: «ميثاق ميلانو»، و«صحيفة يثرب»، أنهما أشارا إلى مجتمع مختلط الأديان، والالتزام بالحريَّة الدِّينية، وعدم الإكراه على العقيدة بحال مِن الأحوال، غير أن عدم الالتزام بهما، بعد عصرهما، جاء لمتغيرات سياسية، فقد ظهرت بأوروبا مركزيَّة الديانة المسيحية، وبعد العهد النبوي ظهر ما عُرف بأحكام أهل الذّمة، وإبعاد مَن ليس له كتاب، وهذا خلاف ما ورد في «صحيفة يثرب»، التي تنشد عدم طغيان الكراهيَّة الدينية.
جاء في «ميثاق ميلانو»: «إننا نترك للمسيحيين الحرية التَّامة والمطلقة في ممارسة شعائرهم الدِّينية»، لكن بعد قيام السلطة على أساس ديني ألغي حقَّ الآخر، الذي ورد لغير المسيحيين. كذلك بعد العهد الإسلامي الأول نسخت الآية، التي عبر عنها جوهر «صحيفة يثرب»: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ»(يونس99). أقول: ليس مثلما يذهب البعض بأن الماضي بمجمله ثقافة كراهيَّة، إنما هناك ما يُعتشى به وبقوة، والشَّاهد المرسومان، من الغرب ومِن الشَّرق.
صحيح أن لكلِّ زمان «إيقاعه» وانعكاساته، لكنّ للحريَّة الدِّينية بين البشر إيقاعها في كلّ زمان ومكان، خلاف ما قال الأمير والشَّاعر العباسي عبد الله بن المعتز(قُتل296هـ)، وقيل أبو الفتح البُستي (ت400هـ): «فلا ترتب بفهمي إنّ رقصي/على مقدار إيقاعِ الزَّمانِ»(ديوان ابن المعتز والثَّعالبي، يتيمة والدَّهر).
هذا بعضُ ما طُرح في ندوة «الفرص والتحديات لتعزيز التسامح الديني» (15- 16أكتوبر 2019)، التي أقامها «مركز الملك فيصل للدراسات والبحوث» بالرِّياض، وطرحنا فيها مِن الماضي ما يمكن التَّأثير به على الحاضر، لأن التَّطرف ينزع إلى ممارسات ومقالات الماضي، وأخذه شاهداً في التأثير على الوسط الاجتماعي المتدين، وكأن الأديان ظهرت للحروب وليس للتعايش، على اعتبار أن الاختلاف الدِّيني المَشُوب بالعنف هو الواقع في الماضي والحاضر، وليس العكس.
نشير هنا إلى مرسومين، واحد ظهر بالغرب والثَّاني بالشّرق، والفرق بينهما أكثر مِن ثلاثة قرون، ولا توجد صلة بينهما، إنما كلٌ منهما عالج واقعاً خاصاً. في العام (313 ميلادي) اتفق الملكان: قسطنطين وليقينيوس بميلانو، على إصدار «ميثاق ميلانو»، والذي منح الحريَّة الدينية للمسيحيين، بعد أن كانوا يعذبون ويُلاحقون، وأن مِن حق المسيحي والوثني العبادة التي يراها، وجاء في الميثاق:
«رأينا مِن الحِكمة والصَّلاح ألا نرفض لأي مواطن، مسيحياً كان أو متعبداً لآلهة أخرى، حقَّ ممارسة الدِّيانة التي تُناسبه على أفضل وجه... أصررنا على إعلامكم بالأمر، على أوضح وجه، لكي تكونوا على بينَّة مِن أننا نترك للمسيحيين الحرية التَّامة والمطلقة في ممارسة شعائرهم الدِّينية، ولما كنا قد منحنا هذا الحق للمسيحيين فليس يفوت سيادتكم، بالطَّبع، أن ما يحق لهؤلاء يحقُ للآخرين أيضاً»(لوكلير، تاريخ التَّسامح في عصر الإصلاح).
أصبح قسطنطين مسيحياً ووقع معه ليقينيوس، الذي ظل على وثنيته، قرار الحرية الدِّينية، وكان الأخير يُعد مِن الأوساط المثقفة. لكنْ عاد الأمر معكوساً عندما اتخذ الملوك المسيحية عقيدة، فصاروا يضطهدون بها غيرهم مِن الأديان، والسَّبب أنها أصبحت راية سياسية تنشر أمام الجيش، كي يشتد في القتال.
بعد ثلاثمائة عام صدرت «صحيفة يثرب»، كمرسوم ينظم العلاقة بين مجتمع المدينة، بغض النظر عن نوع الدِّيانة، جاءت الصّحيفة لحلِّ ما كان قائماً بين الفئات الاجتماعية والدينية، من نزاعات. هيأت الصَّحيفة المذكورة المجتمع بالمدينة، إلى التَّضامن والتّّكافل الاجتماعي، مع الاحتفاظ بالعقائد الدِّينية وخصوصيتها، والاحتفاظ بحرية المقدسات لكلِّ ديانة.
صحيح أن المدينة كانت حينها، حسب بنود الصَّحيفة الثلاثة والخمسين - اقتبسناها من سيرة ابن هشام «السيرة النَّبويَّة»- مقتصرة على المسلمين والمشركين واليهود، لعدم وجود المسيحية وغيرها وقتذاك بالمدينة، لكن البنود الخاصة بالدِّيانة يمكن القياس عليها، حتى لو تعددت أديان منطقة ما إلى العشرات، فما زال يوجد أساس للاتفاق، فلا يضر كثرة الديانات أو قلتها. أما عن تأكيد شمول المشركين في الصحيفة فجاء في البند(19): «لا يُجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً، ولا يحول دونه على مؤمن».
سميت الصَّحيفة بعدة أسماء، وردت في «السيرة النَّبوية» لابن إسحق (ت151هـ) وابن هشام(ت213هـ) بالكتاب والصحيفة، وفي «الأموال» لأبي عبيد بن سلام (ت224هـ) بالكتاب، ومَن سماها بالموادعة، والوثيقة، والميثاق، والمعاهدة، والدستور، والتسمية الأخيرة جاءت ممَن اعتبر المدينة آنذاك دولةً إسلامية. أما تاريخها فالسنة الأولى للهجرة.
تضمن العديد مِن بنود الصَّحيفة الدِّيانة اليهودية واليهود، وأشارت إليهم بالمساواة مع المسلمين، وكذلك من غير المسلمين مِن قريش والذين يُقيمون بالمدنية، قبل الإسلام، فإذا كانت الصحيفة كُتبت في مستهل العام الهجري الأول، فيمكن أن يكون هناك مَن لم يدخل الإسلام بعد، وعلى وجه الخصوص قبل «بدر»(3هـ).
أهم ما أنتجه المرسومان: «ميثاق ميلانو»، و«صحيفة يثرب»، أنهما أشارا إلى مجتمع مختلط الأديان، والالتزام بالحريَّة الدِّينية، وعدم الإكراه على العقيدة بحال مِن الأحوال، غير أن عدم الالتزام بهما، بعد عصرهما، جاء لمتغيرات سياسية، فقد ظهرت بأوروبا مركزيَّة الديانة المسيحية، وبعد العهد النبوي ظهر ما عُرف بأحكام أهل الذّمة، وإبعاد مَن ليس له كتاب، وهذا خلاف ما ورد في «صحيفة يثرب»، التي تنشد عدم طغيان الكراهيَّة الدينية.
جاء في «ميثاق ميلانو»: «إننا نترك للمسيحيين الحرية التَّامة والمطلقة في ممارسة شعائرهم الدِّينية»، لكن بعد قيام السلطة على أساس ديني ألغي حقَّ الآخر، الذي ورد لغير المسيحيين. كذلك بعد العهد الإسلامي الأول نسخت الآية، التي عبر عنها جوهر «صحيفة يثرب»: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ»(يونس99). أقول: ليس مثلما يذهب البعض بأن الماضي بمجمله ثقافة كراهيَّة، إنما هناك ما يُعتشى به وبقوة، والشَّاهد المرسومان، من الغرب ومِن الشَّرق.
صحيح أن لكلِّ زمان «إيقاعه» وانعكاساته، لكنّ للحريَّة الدِّينية بين البشر إيقاعها في كلّ زمان ومكان، خلاف ما قال الأمير والشَّاعر العباسي عبد الله بن المعتز(قُتل296هـ)، وقيل أبو الفتح البُستي (ت400هـ): «فلا ترتب بفهمي إنّ رقصي/على مقدار إيقاعِ الزَّمانِ»(ديوان ابن المعتز والثَّعالبي، يتيمة والدَّهر).