شاهد جمهور التلفزيون التركي صوراً لكاميرات مثبتة في خوذ جنودهم في الخطوط الأمامية، وهم يقتحمون معتقلاً فر منه مقاتلو «داعش»، والتلفزيون التركي يخبر جمهوره بأن «الإرهابيين» من ميليشيا يقودها الأكراد (تدير السجن، وقد حصلت على تسليح وتدريب لسنوات، من قبل الولايات المتحدة لقتال «داعش»)، هي من «أطلقت سراح متشددي (داعش) في محاولة لإذكاء الفوضى»! وقد صرح مسؤول تركي بارز قائلاً: «لقد انكشفت للجميع حماقة الثقة في جماعة إرهابية لمراقبة جماعة أخرى».
والرسالة المنقولة واضحة، وهي أن العملية التركية التي تطلق عليها أنقرة «نبع السلام»، لخلق «منطقة آمنة» بعمق 20 ميلاً عبر شمال سوريا، وقتل كل المتشددين هناك، تمثل عملية ضرورية ودقيقة لمكافحة الإرهاب، وتستهدف، بحسب قول مسؤولين، حماية المواطنين الأتراك من تهديد وجود دويلة صغيرة، يستطيع المتشددون شن هجمات انطلاقاً منها! والرسالة الواضحة الأخرى هي أن تركيا ستمضي قدماً في هجومها الذي يغير الخريطة، رغم تهديدات الرئيس الأميركي دونالد ترامب بتدمير اقتصادها.
والهجوم التركي، الذي انطلق في أعقاب وعد الرئيس ترامب بانسحاب القوات الأميركية، له تداعيات كثيرة بالفعل، بعضها يمثل إشكالية لأردوغان وتركيا، ويرى بعض المحللين أن لدى أردوغان دوافع سياسية واستراتيجية أيضاً من هجومه، الذي أدى إلى نزوح أزيد من 200 ألف مدني، وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة. وحتى الآن، دفع الهجوم إلى فرار مئات من مقاتلي «داعش» المعتقلين، وكثير من أسرهم في السجون والمخيمات، لكن الأكثر شؤماً بالنسبة لتركيا أن الانسحاب المتهور للقوات الأميركية أفسح المجال لعودة قوات الحكومة السورية المدعومة من الروس إلى المناطق التي لم تسيطر عليها منذ سنوات، فقد دخلت القوات الموالية للرئيس السوري بشار الأسد بناءً على دعوة من الميليشيات الكردية الحليفة سابقاً للولايات المتحدة، وبوساطة من موسكو في تحالف تكتيكي دخله الأكراد ليظلوا على قيد الحياة، وذكرت روسيا أن قواتها تحرس المنطقة الشمالية أيضاً.
ومع التحركات الدرامية في قطعة الشطرنج الإقليمية خلال الأسبوعين الماضيين، كما كان الحال في أي مرحلة من الحرب السورية المدمرة المستمرة منذ ثمانية أعوام، هناك أسباب كثيرة لن يفي بموجبها أردوغان للاتفاق الذي أبرمه مع البيت الأبيض على وقف إطلاق النار. ويرى متهان ديمير، المحلل الدفاعي المقيم في أنقرة، أن «سياسة تركيا الرئيسية هي أن هذه ليست حرباً بل قتال ضد الإرهاب، يتصدر قائمة الأولويات التركية منذ سنوات»، وتعتبر تركيا «وحدات حماية الشعب» الكردية التي تقود جيشاً قوامه 50 ألفاً من «قوات سوريا الديمقراطية» فرعاً سورياً من «حزب العمال الكردستاني»، الذي يقاتل تركيا منذ عقود، والمدرج أيضاً على القائمة الأميركية للمنظمات الإرهابية، وخسرت «قوات سوريا الديمقراطية» المدعومة والممولة من الولايات المتحدة 11 ألفاً من أفرادها في القتال ضد «داعش» في شمال سوريا على مدار السنوات الماضية.
وقد وافق الرئيس ترامب على مشروعات قوانين مدعومة من الحزبين، تفرض عقوبات على تركيا، ووافق وزراء خارجية كل أعضاء الاتحاد الأوروبي على منع بيع الأسلحة لأنقرة. ورغم أن أردوغان حاول أن يبدو بمظهر غير المكترث بهذه الضغوط الخارجية، مقللاً من شأنها على الاقتصاد التركي الهش، فإن الخوف من تفاقم مشكلات الاقتصاد التركي هو ما دفعه أخيراً للقبول باستقبال نائب الرئيس الأميركي، الأسبوع الماضي، والإعلان عن وقف «مؤقت» لعمليته العسكرية في شمال شرق سوريا.
وقد أراد أردوغان السيطرة على منطقة عازلة في شمال شرق سوريا، بهدف معلن هو توفير منطقة لإعادة توطين مليونين من لاجئي الحرب السورية متواجدين حالياً في تركيا، لكن هذا الهدف قد يذهب أدراج الرياح سريعاً بسبب العودة السريعة لقوات الأسد إلى شمال شرق سوريا، ويرى فادي حاكورة، الخبير في شؤون تركيا في مركز «تشاتهام هاوس» البحثي في لندن، أن تركيا «أساءت التقدير لعدم توقعها التقارب بين قوات الأسد والمقاتلين الأكراد السوريين، وهو ما يسّرته روسيا».
ويرى حاكورة، أنه لا يمكن فصل المغامرة العسكرية في سوريا عن السياسة في تركيا، لأن البلاد تواجه أزمة اقتصادية حادة، وتحويل قائمة الأولويات إلى الحرب في سوريا هو محاولة لاستغلال الحس القومي التركي والشعور بعدم الأمن، لكن «الخطة مزقتها روسيا»، ويؤكد حاكورة أن «تركيا تخشى بالفعل إقامة منطقة كردية في شمال شرق سوريا ذاتية الحكم، ربما تصبح مستقلة في نهاية المطاف، مما قد يذكي مطالب إقامة وطن قومي لأكراد تركيا، ويؤدي إلى تقسيم البلاد، وهذا خوف دفين منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية».
*صحفي أميركي يغطي شؤون الشرق الأوسط
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»