بحكم إقامتي الطويلة السابقة في تونس، طالباً وموظفاً دولياً، بدا لي مشهد المناظرة التلفزيونية بين مرشحي الشوط الأخير من الانتخابات الرئاسية حدثاً استعراضياً مثيراً، بعيداً كل البعد عن الحالة السياسية المألوفة في هذا البلد الذي عرف بنخبته الفكرية والسياسية المتميزة.
كنت من الجيل الذي تابع زعيم الاستقلال الحبيب بورقيبة في آخر فترة حكمه، ومع أنه كان كبيراً في السن ومريضاً جل الوقت، إلا أنه حافظ إلى آخر يوم من حكمه على ألقه الفكري وحسه السياسي العميق وإشعاعه الشخصي، وحافظت تونس في عهده على مكانتها المتميزة في الساحة العربية والدولية.
كان بورقيبة أصدق تمثيل لجيل درس في المدرسة الصادقية التي أسسها عام 1875 الإصلاحي التحديثي خير الدين التونسي لتكوين نخبة قيادية للبلاد قبل أن يدرس القانون في فرنسا، وعاصر ثم قاد حركة التحرير ضد الاستعمار، وأسس عند الاستقلال معالم دولة حديثة استندت إلى مرتكزات أربعة هي: توطيد الهوية الوطنية، وجودة وتعميم التعليم، وتحرير المرأة، والتضامن الاجتماعي.
كان بورقيبة، بالإضافة إلى ملكته القيادية وشجاعته السياسية، مثقفاً كبيراً، يجمع بين حفظ ديوان المتنبي وديوان الفريد دي فينجي وبين ابن خلدون وأوغست كونت، وكان شديد التشبع بالفكر الليبرالي الغربي، وحريصاً على تجنيب بلاده المطبات والخيارات العقيمة التي عرفها بعض البلدان العربية والأفريقية الأخرى.
ولم يكن بورقيبة في قيادة السفينة التونسية وحده، بل كان أحد ثلاثة زعماء أثَّروا بقوة في مسار تونس الحديثة، مع الزعيم النقابي فرحات حشاد الذي أسس المركزية العمالية القوية، وزج بها في معترك المقاومة ضد الاحتلال قبل أن تغتاله السلطات الاستعمارية عام 1952، وصالح بن يوسف رفيق بورقيبة في زعامة «الحزب الدستوري» قبل أن يختلف معه بعد الاستقلال ثم يُغتال بصورة غامضة في المنفى الألماني عام 1961.
ورغم ما قيل عن سلطوية بورقيبة الذي «انتُخب» رئيساً مدى الحياة وقيّد التعددية الحزبية، كما هو الاتجاه الغالب وقتها على البلدان حديثة الاستقلال، فإن الحكم في عهده كان للنخبة الثقافية والفكرية التونسية التي أسست إحدى أهم البيروقراطيات الإدارية في العالم العربي وأفريقيا، كما أن الفساد في البلاد كان محدوداً وضيق النطاق.
إن هذه البيروقراطية الإدارية ذات الكفاءة العالية، هي التي حفظت لتونس استقرارها واستمرار مكاسبها التنموية والتحديثية في عهد الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، والذي لم يكن بطبيعة الأمر عهداً ديمقراطياً.
بيد أنما حدث بعد سقوط بن علي وتصدر حركة «النهضة» المشهد السياسي، هو خروج الكفاءات الإدارية والفكرية التي بنت تونس الحديثة من مركز القرار، واستيلاء الحركيين الذين تكونوا في الخلايا والسجون والمنافي على دوائر النفوذ، بما كان له سيئ الانعكاس على الحقل السياسي.
أحد الأصدقاء من الجامعيين التونسيين قال لي معلقاً على الانتخابات الأخيرة: أليس من الغريب أن الزعامات الكبرى التي ناضلت من أجل ديمقراطية تونس، مثل المحامي الليبرالي أحمد نجيب الشابي والقيادي اليساري حمة الهمامي.. تخرج من المشهد كما تخرج منه الوجوه البارزة في البيروقراطية الإدارية التونسية العريقة، مثل عبد الكريم الزيدي وكمال مرجان، ويتلخص السباق في مدرس قانون مغمور ورجل أعمال ليس له خلفية سياسية، وما يجمع بينهما هو أضواء الشاشة والطريقة الشعبوية في اقتناص أصوات الناخبين الذين لم يعودوا يثقون في رجال السياسة المحترفين، وإن كانوا في الوقت نفسه اكتشفوا زيف أقنعة الإسلام السياسي؟
قد لا تكون تونس استثناءً اليوم في عالم تحكمه الشعبويات، حتى في الديمقراطيات العريقة التي انهارت فيها الطبقة السياسية التقليدية، إلا أن الخطر في تونس هو استمرار أزمة الانتقال السياسي التي ستتضاعف نتيجة لتشتت المجلس التشريعي في إطار النظام البرلماني القائم، مع غياب رئيس قوي قادر على التحكم في دفة القرار وأداء دور التوازن المطلوب في الحياة السياسية.
في عام 1980 اختار بورقيبة المثقف الكبير والأديب المعروف محمد مزالي لرئاسة الحكومة، بما يعني عملياً توليته العهد وفق أحكام الدستور التونسي. وعندما اندلعت في عام 1984 الانتفاضة الاحتجاجية العارمة التي سميت «ثورة الخبز»، خرج الزعيم العجوز للشعب باكياً معتذراً، واعترف لخاصيته أنه ارتكب خطأ فادحاً عندما غلّب ذائقته الأدبية على اعتبارات الكفاءة الإدارية والفنية التي هي وحدها ما يسوس البلدان ويقودها، لا جميل العبارات وجمالية الألفاظ وأساليب الكلام.
*أكاديمي موريتاني