بدايات المبدعين متواضعة، هذا ما يقوله منطق الأشياء، وبحسب أحد الباحثين، كان نزار قباني يعيد صياغة أجزاء كبيرة من بعض قصائده الأولى ليضمّنها في دواوينه، بدلاً من نشرها كما نُشرت في أول الأمر في الصحف. وثمة مرحلة قبل النشر يحرص خلالها مَن سيكون في قادم الأيام شاعراً أو كاتباً على عرض تجاربه الأولى في محيطه الصغير، وإذا وجد القبول، سهر مُنكبّاً على صقل موهبته وتجويد إنتاجه، حتى يأتي اليوم الذي ينشر ما كتَب في جريدة أو يلقي ما نَظم في أمسية.
ولا يحصل المرء على الاعتراف به إلا من جهة لها حيثية أو صفة، فبالنشر في جريدة يصبح المرء كاتباً، وبتنظيم أمسية له من قبل مؤسسة يصبح شاعراً. هذا الاعتراف سوطٌ يلهب خيال المبدع، والعبارة الأخيرة مقتبسة، وهو كالاعتراف الذي يحصل عليه الشخص بأنه «لاعب» إذا جرى خلف الكرة على المستطيل الأخضر ضمن نادٍ رسمي، فمهما جرى خارج هذا المستطيل، فإنه سيبقى شخصاً يجري خلف كرة، ولو كان أكثر براعة من «ميسي». ولأنه قد يقِيم شخص ما أمسية شعرية بـ«فلوسه» وعلاقاته، فلابد من تدعيم الاعتراف الرسمي باعتراف الجمهور، فمن حضروا الأمسية لن تصدر منهم التأوّهات إذا لم يطربهم بشعره.
ومع ظهور شبكات التواصل تقلّصت المراحل التي مرّ بها المبدعون جيلاً بعد جيل إلى مرحلة مواجهة الجمهور، فالموهوب في الكتابة، يحوّل «تويتر» إلى دفتر للبدايات، والموهوب في الرسم، يعرض ما نقش على «فيسبوك»، وقد ينتهي الأمر بالأول إلى كتم ما بصدره، وإلى ارتداد الثاني نحو لوحاته وتمزيقها. يحدث ذلك لأن الجمهور الافتراضي غير الجمهور الواقعي، فنحن إذ نشارك في مواقع التواصل فإننا نفعل ذلك لتسجيل حضورنا والتعبير عن ذواتنا، لا لنقرأ كتابات متواضعة، أو لنستمع إلى قصائد ضعيفة، وهي شأن البدايات.
وأنت كمحب للفن التجريدي مثلاً، تسعى بقدميك إلى معرض لهذا الفن، وهو ما يعني أنك «تفهم» في الفن التجريدي، بينما الجمهور الافتراضي خليطٌ من أذواق، وقدرات، يجدون فجأة لوحة أو خربشة أمامهم. وأنت كحاضر في أمسية، تفكر فيما ستقول قبل أن تطلب المايكرفون للتعليق على قصيدة الشاعر المبتدئ، لأنك مسؤول عن كلامك، بينما الجمهور الافتراضي لا يشعر بمثل تلك المسؤولية. وأنت كمتفاعل وجهاً لوجه مع رسام أثناء معرضه الفني الأول، ثمة مستوى من المراعاة، وقدر من اللباقة، يوجهانك إلى التلطّف وعدم تكسير المجاديف، بينما الإنسان، كما هو ملاحظ، أقسى خلف الأجهزة مما هو عليه في الواقع.
وإذا كانت الموهبة تظهر في سن مبكرة، ولا تتطور إلى إبداع إلا بالعمل الدؤوب لفترة طويلة، فلنا أن نتخيل حال يافعٍ يتعرض لهجوم افتراضي لاذع، وانتقاد عشوائي، وكلمات مدمرة؟! ولا ينجو من الجمهور الافتراضي إلا مكتمل الإبداع، أي «الفلتة» الذي يجد ألف تصفيق في مقابل ألف لكمة، أما الموهوب الذي لا يزال أمامه الكثير ليكون مبدعاً، فقد يتحطّم مركبه في البحر الافتراضي المتلاطم الأمواج. وهذا يفرض مسؤولية على المؤسسات ذات الصلة بأن تحرص على استقطاب الموهوبين، وعدم
تركهم يواجهون مصيرهم مع جمهور لا يرحم.