بالغت الأحزاب والجماعات الدِّينيَّة بالعراق(2003)، بإطلاق رموزها عناوينَ للمؤسسات التّعليمية، وقاعات المؤتمرات، والمستشفيات والشَّوارع، والمنتديات ونواحي الحياة كافة، كمظاهر للأسلمة التي لا تخفي الفساد والجهل، على حِساب العناوين التي تجمع ولا تفرق، حتى كاد يكون تجاوزاً على أسماء حضارية لم يبق للعراقيين غير المفاخرة بها، بعد الإفلاس مِن الحاضر. فبابل كادت تُسمّى بـ«الإمام الحَسن»، مثلما قُلبت أسماء جامعات إلى أسماء الأئمة وكناهم ونعوتهم، وهي عقارات منهوبة بالأساس مِن الدَّولة، تحت غطاء الشِّراء.
إنها تسميات غير حيادية، صحيح أن الانقلابات أول ما تكرس وجودها بالعناوين، بما يدل على عقيدة الانقلابيين، لكنَّ ما حصل في(2003) ليس انقلاباً ولا ثورةً، إنما وضع أسفرَ عن اجتياح أجنبي، ليس فيه فضل لثائر أو انقلابي، كي يصبح صاحب الحقِّ بفرض عناوينه على الدَّولة والمجتمع. تجد زج الأسماء والعناوين الدِّينية في تفاصيل الحيَّاة اليومية، حتى لغة المخاطبة في الدَّوائر، نوع مِن الاستئثار وتكريس الموجة الدِّينية الهابطة.
إلا أن أكثر رمزية تظهر في مجسم «سَيف ذي الفَقار»، وقد قُدم هدايا، لشخصيات ووفود، قدمه الناطق باسم «حزب الدَّعوة الإسلامية» (بمثابة أمين عام الحزب) لوزير الدفاع الأميركي تكريماً لجهوده في احتلال العراق، بعد أن كان الحزب المذكور يجاهر بالعداء للأميركان. أُقيم للسيف نصب ضخم في ساحة ثورة العشرين بالنَّجف، لِما يتعلق بوجود ضريح صاحبه عليِّ بن أبي طالب (اغتيل40ه). قدم فنانون نقداً للنَّصب المذكور، فقد وجدوه فناً مشوهاً، صُرف عليه مبلغاً كبيراً مِن المال، بل اُنتقد أن يكون للسّيْف نصب كرمز للقوة، وإلى جانبه مجسم لحُصن خيبر، الذي يُعتقد أن بابه فُتح بهذا السَّيف. جاء هذا العمل تقليداً للنصب التَّذكارية التي أقامها النّظام السابق، ومع رداءة العمل الفني المبذول في هذا النَّصب، أزيلت نصب وجداريات فنيّة، لا علاقة لها بتجسيد شخصية ما.
هيمن التَّدين الشَّعبي، المبالغ بتدنيه، كبيئة داعمة للأحزاب الدِّينية في خراب العِراق، بل والدَّعم متبادل. يُظهر هذا المستوى مِن التَّدين الشَّخصيات المقدسة بما يُسيء لها، فما يحصل في عاشوراء أصبح خارج المعقول، مع تزايد الأضرحة والمزارات، حتى صارت دكاكين ارتزاق، على حساب الثَّقافة، التي كان مِن المؤمل أن يبدأ العِراق بتكريسها، فيمكن أن تكون أي شجرة أو حفرة أو حائط مزاراً، ولا فرق بينه وبين مركز ثقافي تابع لحزب ديني.
جاء ذِكر سَيْف ذي الفُقار في كتب التَّاريخ كافة، أنه غنيمة في معركة بدر(2ه)، ثم أهدي لعليٍّ، وظل يتداول عند العلويين، حتى صار لحفيد الحسن بن عليٍّ، محمد النَّفس الزَّكية(قُتل145ه)، ثم استأثر العباسيون به، وآخر أخباره كان عند هارون الرَّشيد(ت193ه) (الطَّبري، تاريخ الأُمم والملوك). أما الموجود في متحف إسطنبول فليس ذلك السَّيف، أو سيوف بقية الخلفاء الرَّاشدين، مثلما يدعي المُتحف المذكور، إنما هي محاولة العثمانيين على تأكيد شرعية وراثة الخلافة التي لا تصح لهم، لأن «النَّسب وهو أن يكون من قريش لورود النَّص» (الماوردي، الأحكام السُّلطانية).
إن صورة سَيف ذي الفَقَار، المنتشرة حالياً، تُخالف الوصف الذي اتفق عليه المؤرخون الأوائل، كان له ثماني عشرة فقارة (فقرة) على ظهره، ولم يتحدث أحد عن رأسين في طرفه، ومعلوم أن الفترة الصَّفوية رتبت وقائع وأحداث فيها الغلو والتَّطرف المذهبي، فوضعت صورة خنجر أبي لؤلؤة(قُتل 23ه) قاتل عمر بن الخطاب(23ه)، لسّيف ذي الفقار، وقد جاء وصفه «خنجر له رأسان» (الطَّبري، نفسه).
هُدم المقام الذي كان يسمى بقبر أبي لؤلؤة، أو «بابا شجاع»، عام 2007، والذي شُيد بمدينة كاشان الإيرانية، مِن قِبل أسرة عظيمي التي ادعت الانتماء لأبي لؤلؤة (جميل، مقال قبر أبي لؤلؤة في المدينة أم كاشان؟!). فأبو لؤلؤة قُتل بالمدينة، فكيف يظهر قبره بكاشان؟!
عموماً، بعد أن كثر التَّهادي بسيف ذي الفقار، وما أقيم مِن نصب تذكاري بالنَّجف والكوفة أيضاً، لا بد مِن التَّصحيح للخيال المشوه، فهذا ليس سيف الرَّسول الذي أهداه لعليٍّ، وربَّما لم يعرف المتهادون والداعون إلى قيام النُصب التذكارية لذلك السَّيْف، هذه الحقيقة. لكنَّ القضيةَ أخذت تُعلن، والعراق لم ينقصه مثل هذا الخراب الطائفي والفني أيضاً.
إنه تحريف مفجع للتاريخ، فليس عداءً مستمراً بين الأئمة والخلفاء، مثلاً عبد الله المأمون(ت218ه)، الذي لم يترك أصحاب المنابر مسبةً إلا سبوه بها، فهذا الإمام علي بن موسى الرِّضا(ت2003) يقول فيه: «إنه وصل أرحاماً قُطعت، وآمن نفوساً فُزعت، بل أحياها وقد تُلفت، وأغناها إذا افتقرت»(ابن بابويه، عيون أخبار الرِّضا)، ومعلوم أن ابن بابويه هو محمد بن علي بن الحسن المشهور بالشَّيخ الصَّدوق(ت381ه)، أحد أصحاب كتب الحديث الإمامية الأربعة الأولى «مَن لا يحضره الفقيه». كذلك، ما كان بين عليٍّ وعمرٍ لا يقبل المزج بين صورة سيف الأول وخنجر قاتل الثَّاني.
أقول: لابد أن يتوقف الانهيار، لشعب يُقاد بحزازات الماضي، رزقاً للخائضين بها. لمحمد صالح بحر العلوم(ت1992) مِن قصيدة «بعض العقائد»(1934): «إنا سقطنا للحضيض فهل لنَّا/بعد السُّقوط ترفعٌ وعلاءُ/إن كدرت نُدب الزَّمان صفاءنا/ فلنا بدفن الماضيات صفاءُ»(الخاقاني، شُعراء الغري)، واليوم أخطر وأشد مِن الأمسِ.
إنها تسميات غير حيادية، صحيح أن الانقلابات أول ما تكرس وجودها بالعناوين، بما يدل على عقيدة الانقلابيين، لكنَّ ما حصل في(2003) ليس انقلاباً ولا ثورةً، إنما وضع أسفرَ عن اجتياح أجنبي، ليس فيه فضل لثائر أو انقلابي، كي يصبح صاحب الحقِّ بفرض عناوينه على الدَّولة والمجتمع. تجد زج الأسماء والعناوين الدِّينية في تفاصيل الحيَّاة اليومية، حتى لغة المخاطبة في الدَّوائر، نوع مِن الاستئثار وتكريس الموجة الدِّينية الهابطة.
إلا أن أكثر رمزية تظهر في مجسم «سَيف ذي الفَقار»، وقد قُدم هدايا، لشخصيات ووفود، قدمه الناطق باسم «حزب الدَّعوة الإسلامية» (بمثابة أمين عام الحزب) لوزير الدفاع الأميركي تكريماً لجهوده في احتلال العراق، بعد أن كان الحزب المذكور يجاهر بالعداء للأميركان. أُقيم للسيف نصب ضخم في ساحة ثورة العشرين بالنَّجف، لِما يتعلق بوجود ضريح صاحبه عليِّ بن أبي طالب (اغتيل40ه). قدم فنانون نقداً للنَّصب المذكور، فقد وجدوه فناً مشوهاً، صُرف عليه مبلغاً كبيراً مِن المال، بل اُنتقد أن يكون للسّيْف نصب كرمز للقوة، وإلى جانبه مجسم لحُصن خيبر، الذي يُعتقد أن بابه فُتح بهذا السَّيف. جاء هذا العمل تقليداً للنصب التَّذكارية التي أقامها النّظام السابق، ومع رداءة العمل الفني المبذول في هذا النَّصب، أزيلت نصب وجداريات فنيّة، لا علاقة لها بتجسيد شخصية ما.
هيمن التَّدين الشَّعبي، المبالغ بتدنيه، كبيئة داعمة للأحزاب الدِّينية في خراب العِراق، بل والدَّعم متبادل. يُظهر هذا المستوى مِن التَّدين الشَّخصيات المقدسة بما يُسيء لها، فما يحصل في عاشوراء أصبح خارج المعقول، مع تزايد الأضرحة والمزارات، حتى صارت دكاكين ارتزاق، على حساب الثَّقافة، التي كان مِن المؤمل أن يبدأ العِراق بتكريسها، فيمكن أن تكون أي شجرة أو حفرة أو حائط مزاراً، ولا فرق بينه وبين مركز ثقافي تابع لحزب ديني.
جاء ذِكر سَيْف ذي الفُقار في كتب التَّاريخ كافة، أنه غنيمة في معركة بدر(2ه)، ثم أهدي لعليٍّ، وظل يتداول عند العلويين، حتى صار لحفيد الحسن بن عليٍّ، محمد النَّفس الزَّكية(قُتل145ه)، ثم استأثر العباسيون به، وآخر أخباره كان عند هارون الرَّشيد(ت193ه) (الطَّبري، تاريخ الأُمم والملوك). أما الموجود في متحف إسطنبول فليس ذلك السَّيف، أو سيوف بقية الخلفاء الرَّاشدين، مثلما يدعي المُتحف المذكور، إنما هي محاولة العثمانيين على تأكيد شرعية وراثة الخلافة التي لا تصح لهم، لأن «النَّسب وهو أن يكون من قريش لورود النَّص» (الماوردي، الأحكام السُّلطانية).
إن صورة سَيف ذي الفَقَار، المنتشرة حالياً، تُخالف الوصف الذي اتفق عليه المؤرخون الأوائل، كان له ثماني عشرة فقارة (فقرة) على ظهره، ولم يتحدث أحد عن رأسين في طرفه، ومعلوم أن الفترة الصَّفوية رتبت وقائع وأحداث فيها الغلو والتَّطرف المذهبي، فوضعت صورة خنجر أبي لؤلؤة(قُتل 23ه) قاتل عمر بن الخطاب(23ه)، لسّيف ذي الفقار، وقد جاء وصفه «خنجر له رأسان» (الطَّبري، نفسه).
هُدم المقام الذي كان يسمى بقبر أبي لؤلؤة، أو «بابا شجاع»، عام 2007، والذي شُيد بمدينة كاشان الإيرانية، مِن قِبل أسرة عظيمي التي ادعت الانتماء لأبي لؤلؤة (جميل، مقال قبر أبي لؤلؤة في المدينة أم كاشان؟!). فأبو لؤلؤة قُتل بالمدينة، فكيف يظهر قبره بكاشان؟!
عموماً، بعد أن كثر التَّهادي بسيف ذي الفقار، وما أقيم مِن نصب تذكاري بالنَّجف والكوفة أيضاً، لا بد مِن التَّصحيح للخيال المشوه، فهذا ليس سيف الرَّسول الذي أهداه لعليٍّ، وربَّما لم يعرف المتهادون والداعون إلى قيام النُصب التذكارية لذلك السَّيْف، هذه الحقيقة. لكنَّ القضيةَ أخذت تُعلن، والعراق لم ينقصه مثل هذا الخراب الطائفي والفني أيضاً.
إنه تحريف مفجع للتاريخ، فليس عداءً مستمراً بين الأئمة والخلفاء، مثلاً عبد الله المأمون(ت218ه)، الذي لم يترك أصحاب المنابر مسبةً إلا سبوه بها، فهذا الإمام علي بن موسى الرِّضا(ت2003) يقول فيه: «إنه وصل أرحاماً قُطعت، وآمن نفوساً فُزعت، بل أحياها وقد تُلفت، وأغناها إذا افتقرت»(ابن بابويه، عيون أخبار الرِّضا)، ومعلوم أن ابن بابويه هو محمد بن علي بن الحسن المشهور بالشَّيخ الصَّدوق(ت381ه)، أحد أصحاب كتب الحديث الإمامية الأربعة الأولى «مَن لا يحضره الفقيه». كذلك، ما كان بين عليٍّ وعمرٍ لا يقبل المزج بين صورة سيف الأول وخنجر قاتل الثَّاني.
أقول: لابد أن يتوقف الانهيار، لشعب يُقاد بحزازات الماضي، رزقاً للخائضين بها. لمحمد صالح بحر العلوم(ت1992) مِن قصيدة «بعض العقائد»(1934): «إنا سقطنا للحضيض فهل لنَّا/بعد السُّقوط ترفعٌ وعلاءُ/إن كدرت نُدب الزَّمان صفاءنا/ فلنا بدفن الماضيات صفاءُ»(الخاقاني، شُعراء الغري)، واليوم أخطر وأشد مِن الأمسِ.