تتوالى الإشادات العالمية بالراحل جاك شيراك، رئيس فرنسا الأسبق وأحد أعمدة الحياة السياسية الفرنسية الحديثة. بدأ شيراك مسيرته السياسية في ستينيات القرن العشرين ليواصلها على مدى نصف قرن، قبل أن ينهيها في عام 2007 بعد 12 عاماً أمضاها في قصر الأليزيه. وكان شيراك طوال حياته وفياً لمبادئ الجمهورية الخامسة التي أسسها زعيمه الروحي شارل ديغول، كما كان وفياً لمبادئ إنسانية وعالمية جعلته يتمتع باحترام وتقدير خاصين في أفريقيا والعالم العربي، حيث يتذكر الجميع مواقفه الشجاعة، وكان أبرزها رفضه مشاركة بلاده في غزو العراق عام 2003.
كل من عرف شيراك ولازمه في جوانب من حياته، رأى فيه جانبين: شخصية الأسد السياسي الذي يجيد اللعبة الإنسانية، وشخصية الإنسان الذي يجد سعادته في سعادة الآخر والتفاني في خدمته. كان شيراك يشعِر الآخرَ بدفء إنساني قل نظيره، بسلامه الحار وابتسامته العريضة ومظهره الأنيق والإلهام الشخصي الفائق الذي لا يعلى عليه. خلال بعض اللقاءات في بيت «كزافيي غيراند هيرميس» بباريس، حول تحالف الحضارات والتنوع الثقافي، كنت أرى الرئيس الفرنسي الراحل وزوجته برناديت شيراك، وكانت ابتسامته وحرارة سلامه مؤثرتين ولا توصفان، كما كانت ثقافته الواسعة تثير إعجاب السامع. وكان حب الزوجين للمغرب والمغاربة متجذراً في وجدانهما.
وفي نعي من جلالة الملك محمد السادس للرئيس الراحل، والذي كان صديقاً مقرباً لوالده الملك الحسن الثاني، يشيد بـ «ذكرى رجل الدولة الكبير الذي وهب حياته للسياسة بحزم ونبل وانشغال دؤوب من أجل رفاه مواطنيه». ثم يضيف: إن «المملكة المغربية ستحتفظ عالياً بذكرى صديق كبير ساهم، بقوة، في تمتين علاقات الصداقة بين بلدينا من خلال جعلها شراكة استثنائية. وستمثل هذه الشراكة، الفريدة، مستقبلاً، مرجعاً لتعاوننا». وأكد الملك أن رحيل شيراك «لا يشكل فقط خسارة لفرنسا التي خدمها بكل تفانٍ، ولكن أيضاً للمجموعة الدولية برمتها التي عرفت فيه رجل حوار وقناعات، متشبثاً، بشكل قوي، باحترام القانون الدولي والعدالة على الصعيد العالمي».
في محاضراتي لطلبة الجامعة غالباً ما أتوقف عند العلاقة بين القوة والقانون الدولي وأعطي مثالاً حياً من تاريخ العلاقات الدولية المعاصرة، ففي فبراير 2003، قدم هانس بليكس، كبير مفتشي الأمم المتحدة، تقريره حول أسلحة الدمار الشامل في العراق، داعياً للقيام بعمليات تفتيش جديدة. لكن في مجلس الأمن الدولي، أكد كولن باول وزير الخارجية الأميركي آنذاك، أن صدام حسين لا يلتزم بعمليات التفتيش. وكان الرئيس الفرنسي مقتنعاً بأن شن حرب جديدة سيزعزع استقرار المنطقة، وكان يأمل مواصلة عمليات التفتيش، وعهد لوزير الخارجية في حكومة جان بيار رافاران آنذاك، وهو دومينيك دو فيلبان، بقيادة المعركة الدبلوماسية في الأمم المتحدة. وأعلنت فرنسا في 14 فبراير 2003 معارضتها الحرب على العراق عبر كلمة مدوية لدو فيلبان. وحظي الموقف الفرنسي من الحرب بالتصفيق في مجلس الأمن، وهي ممارسة قلّما نشهدها في هذه المؤسسة. وقال دو فيلبان وقتها، وبكلمات دقيقة ومتقونة: «في صرح الأمم المتحدة هذا، نحن حراس المثالية، وحراس الضمير. المسؤولية الثقيلة والشرف الكبير الذي نملكه يجب أن يقوداننا إلى إعطاء الأولوية لنزع السلاح في سبيل السلام. فرنسا بلد عجوز، وأوروبا التي أنا منها قارة عجوز، تقول لكم هذا اليوم، أوروبا التي عرفت الحروب والاحتلال والهمجية.« وفي 18 مارس 2003، أعلن الرئيس شيراك أن «العراق لا يمثل اليوم تهديداً وشيكاً يبرر اللجوء إلى حرب فورية. وفرنسا تدعو الجميع لتحمل المسؤولية في احترام الشرعية الدولية. إن الخروج عن شرعية الأمم المتحدة، وإعطاء الأولوية للقوة على القانون، يعني تحمل مسؤولية كبيرة».
وبعد ذلك الإعلان، ارتفعت شعبية شيراك إلى مستويات قياسية، إذ قال ثلاثة أرباع الفرنسيين إنهم راضون عن خطوته. وبدأت الحرب على العراق في اليوم التالي بمبادرة من الولايات المتحدة وحليفتها بريطانيا. وأثّر قرار شيراك عدم خوض الحرب ضد العراق على العلاقات بين فرنسا والولايات المتحدة لسنوات عدة.