صدر هذه الأيام في فرنسا كتاب حواري هام جمع بين الفيلسوف الفرنسي «رمي براغ» الذي لا يخفي نظرته النقدية الحادة للإسلام، والفيلسوف السنغالي «سليمان بشير ديان» الذي سبق له أن كتب عدة أعمال هامة في الفلسفة الإسلامية من بينها كتاب حول الفيلسوف الهندي محمد إقبال سبق لي أن نقلته إلى العربية.
الكتاب الذي يحمل عنوان «الجدل»، هو فعلا كتاب جدل حقيقي بين فيلسوفين شديدي الاختلاف في النظر للإسلام عقيدة وشريعة وتجربة تاريخية، مع أن أهمية الكتاب الفعلية تكمن في ردود «ديان» العميقة والموثقة حول أفكار وآراء «رمي براغ» العدائية المعروفة للإسلام.
المحور الأساسي الذي يدور حوله الجدل هو أطروحة براغ التي بسطها في عدة أعمال منشورة (من بينها كتابه «قانون الله»)، وخلاصتها أن خصوصية الإسلام في مقوماته اللاهوتية والعقدية هي أنه يعتبر القرآن كلام الله الحرفي المباشر والمفصل الموجه للبشر، بما يعني أن علاقة التدين الوحيدة الممكنة هي الانقياد الكلي للإرادة الإلهية المطلقة دون تفكير أو تأويل. وينتهي براغ إلى أن النتيجة الأساسية لهذا التصور هي «الطابع اللاعقلاني الجوهري للإسلام ونزوعه العضوي للعنف»، باعتبار تداخل القانوني والسياسي والعقدي في البنية الأساسية للدين، على عكس المسيحية التي هي ديانة العقل والسلم، كما يقول. ويخلص براغ إلى أن الفلسفة نبتة غريبة في التقليد الإسلامي، وفي كل الأحوال لا أثر ولا تأثير لما يطلق عليه «الفلسفة الإسلامية» في الحداثة الأوروبية (سبق لبراغ أن بسط القول في الموضوع في كتابه: «أوروبا المسلك الروماني»).
ليس ثمة من هو أجدر بالرد على هذه الأطروحة التي تغذي رافداً أساسياً من روافد الإسلاموفوبيا الرائجة من أستاذ الفلسفة الإسلامية وفلسفة المنطق والرياضيات في جامعة كولومبيا الأميركية المفكر السنغالي بشير ديان، الذي استند إلى ثقافته الفلسفية والدينية الواسعة لتبيان أوجه الخطأ والقصور في هذه الرؤية التي تغفل ثراءَ وتنوعَ الاتجاهات الفلسفية الكلامية في التقليد الإسلامي من حيث تصورها لطبيعة الوحي وطرق تأويله وعلاقة العبادة والعبودية بين الخالق ومخلوقاته، وما يترتب على هذه الأسس العقدية الجوهرية من آثار ونتائج في أحكام الشريعة المتعلقة بالتنوع الديني والتعايش بين البشر وطريقة الحكم والسياسة.
ودون الخوض في هذه الإشكالات الفلسفية الكلامية المعقدة والمتخصصة، أكتفي هنا بالإشارة إلى بعض الجوانب في نقد أطروحة براغ وأوافق صديقي الفيلسوف بشير ديان في مرتكزاتها المرجعية. الجانب الأساسي يتعلق بطبيعة الوحي في مصدره الإلهي، فمع أن المتكلمين والفقهاء اتفقوا على أن القرآن كلام الله المنزل على اختلاف بين مَن اعتبره كلاماً مخلوقاً (المعتزلة) ومن ميّز بين الكلام النفسي والكلام اللفظي (الأشاعرة)، إلا أنهم أجمعوا على التمييز بين صفة الكلام الذاتية والخطاب المنزل وأقروا بالمسافة التأويلية اللامتناهية بين المعنى الأصلي للنص المطلق والفهم البشري المحدود. وقد أرجع باحث الإسلاميات الألماني «توماس باور» ثراء وتنوع الممارسة التأويلية في التقليد الإسلامي إلى هذه المسافة الهرمنوطيقية التي تحول دون أي ادعاء ممكن لاحتكار التفسير الصحيح للنص. ولعل الفسحة التأويلية أوسع في التراث الإسلامي من التقليد اللاهوتي المسيحي، وذلك لغياب سلطة تأويلية يوكل إليها تفسير النص والتحكم في دلالاته (على غرار الكنيسة).
ويترتب على هذه المسألة إشكال العلاقة الوجودية والأخلاقية بين الله والإنسان، العلاقة التي اعتبر براغ أنها محصورة في الانقياد والاستسلام بتنفيذ أحكام الشرع المنزلة. والحال أن براغ يختزل هذه العلاقة الثرية في أحد أوجهها وهو الوجه التكليفي الذي لا يمكن فهمه إلا في إطار شبكة دلالية كثيفة وثرية عالجها المتكلمون في مباحث الأسماء والصفات التي تعكس تعدد مراتب ومستويات صلة الله بالإنسان التي ينتظمها مبدأ الاستخلاف وتبلغ في مقام الترقي والتقرب حدوداً قصوى عبّرت عنها الأدبيات الصوفية بمصطلحات معروفة مثل الشهود والفناء.
وعلى عكس الفكرة التي يكررها براغ ويتفق فيها مع أطروحات الإسلام السياسي، لا معنى للقول بالتداخل العضوي بين العقدي والقانوني والسياسي في الإسلام، ذلك أن الأحكام التكليفية في الشريعة ليست قوانين بالمعنى الموروث من التقليد الروماني المسيحي (أي المعايير الكلية الضابطة للوعي والسلوك سواء في إطار الحقل الديني أو منقولة إلى الحقل السياسي)، بل إنها لا تنفصل عن المحددات الأخلاقية الجوهرية في الإسلام التي تعين لها مستويات تنزيلها المتعددة التي تعتريها ضوابط الأسباب والشروط والموانع.. حسب اصطلاحات الأصوليين.
لم يقل أحد من فقهاء الإسلام السنّة إن الدولة أصل من أصول الاعتقاد، ولم يعتبر أحد منهم أن السياسي قادر على تجسيد الدين، وما فهمه براغ من علاقة التكليف المباشرة بين الله وعباده لم يفهم منها مفكرو الإسلام الأوائل انسحاب الإنسان وغيابه بل مركزيته الأنطولوجبة والتأويلية التي قد تصل إلى حد أن يكون الله، كما في الحديث القدسي الصحيح، السمع الذي يسمع به العبد والبصر الذي يبصر به.
الكتاب الذي يحمل عنوان «الجدل»، هو فعلا كتاب جدل حقيقي بين فيلسوفين شديدي الاختلاف في النظر للإسلام عقيدة وشريعة وتجربة تاريخية، مع أن أهمية الكتاب الفعلية تكمن في ردود «ديان» العميقة والموثقة حول أفكار وآراء «رمي براغ» العدائية المعروفة للإسلام.
المحور الأساسي الذي يدور حوله الجدل هو أطروحة براغ التي بسطها في عدة أعمال منشورة (من بينها كتابه «قانون الله»)، وخلاصتها أن خصوصية الإسلام في مقوماته اللاهوتية والعقدية هي أنه يعتبر القرآن كلام الله الحرفي المباشر والمفصل الموجه للبشر، بما يعني أن علاقة التدين الوحيدة الممكنة هي الانقياد الكلي للإرادة الإلهية المطلقة دون تفكير أو تأويل. وينتهي براغ إلى أن النتيجة الأساسية لهذا التصور هي «الطابع اللاعقلاني الجوهري للإسلام ونزوعه العضوي للعنف»، باعتبار تداخل القانوني والسياسي والعقدي في البنية الأساسية للدين، على عكس المسيحية التي هي ديانة العقل والسلم، كما يقول. ويخلص براغ إلى أن الفلسفة نبتة غريبة في التقليد الإسلامي، وفي كل الأحوال لا أثر ولا تأثير لما يطلق عليه «الفلسفة الإسلامية» في الحداثة الأوروبية (سبق لبراغ أن بسط القول في الموضوع في كتابه: «أوروبا المسلك الروماني»).
ليس ثمة من هو أجدر بالرد على هذه الأطروحة التي تغذي رافداً أساسياً من روافد الإسلاموفوبيا الرائجة من أستاذ الفلسفة الإسلامية وفلسفة المنطق والرياضيات في جامعة كولومبيا الأميركية المفكر السنغالي بشير ديان، الذي استند إلى ثقافته الفلسفية والدينية الواسعة لتبيان أوجه الخطأ والقصور في هذه الرؤية التي تغفل ثراءَ وتنوعَ الاتجاهات الفلسفية الكلامية في التقليد الإسلامي من حيث تصورها لطبيعة الوحي وطرق تأويله وعلاقة العبادة والعبودية بين الخالق ومخلوقاته، وما يترتب على هذه الأسس العقدية الجوهرية من آثار ونتائج في أحكام الشريعة المتعلقة بالتنوع الديني والتعايش بين البشر وطريقة الحكم والسياسة.
ودون الخوض في هذه الإشكالات الفلسفية الكلامية المعقدة والمتخصصة، أكتفي هنا بالإشارة إلى بعض الجوانب في نقد أطروحة براغ وأوافق صديقي الفيلسوف بشير ديان في مرتكزاتها المرجعية. الجانب الأساسي يتعلق بطبيعة الوحي في مصدره الإلهي، فمع أن المتكلمين والفقهاء اتفقوا على أن القرآن كلام الله المنزل على اختلاف بين مَن اعتبره كلاماً مخلوقاً (المعتزلة) ومن ميّز بين الكلام النفسي والكلام اللفظي (الأشاعرة)، إلا أنهم أجمعوا على التمييز بين صفة الكلام الذاتية والخطاب المنزل وأقروا بالمسافة التأويلية اللامتناهية بين المعنى الأصلي للنص المطلق والفهم البشري المحدود. وقد أرجع باحث الإسلاميات الألماني «توماس باور» ثراء وتنوع الممارسة التأويلية في التقليد الإسلامي إلى هذه المسافة الهرمنوطيقية التي تحول دون أي ادعاء ممكن لاحتكار التفسير الصحيح للنص. ولعل الفسحة التأويلية أوسع في التراث الإسلامي من التقليد اللاهوتي المسيحي، وذلك لغياب سلطة تأويلية يوكل إليها تفسير النص والتحكم في دلالاته (على غرار الكنيسة).
ويترتب على هذه المسألة إشكال العلاقة الوجودية والأخلاقية بين الله والإنسان، العلاقة التي اعتبر براغ أنها محصورة في الانقياد والاستسلام بتنفيذ أحكام الشرع المنزلة. والحال أن براغ يختزل هذه العلاقة الثرية في أحد أوجهها وهو الوجه التكليفي الذي لا يمكن فهمه إلا في إطار شبكة دلالية كثيفة وثرية عالجها المتكلمون في مباحث الأسماء والصفات التي تعكس تعدد مراتب ومستويات صلة الله بالإنسان التي ينتظمها مبدأ الاستخلاف وتبلغ في مقام الترقي والتقرب حدوداً قصوى عبّرت عنها الأدبيات الصوفية بمصطلحات معروفة مثل الشهود والفناء.
وعلى عكس الفكرة التي يكررها براغ ويتفق فيها مع أطروحات الإسلام السياسي، لا معنى للقول بالتداخل العضوي بين العقدي والقانوني والسياسي في الإسلام، ذلك أن الأحكام التكليفية في الشريعة ليست قوانين بالمعنى الموروث من التقليد الروماني المسيحي (أي المعايير الكلية الضابطة للوعي والسلوك سواء في إطار الحقل الديني أو منقولة إلى الحقل السياسي)، بل إنها لا تنفصل عن المحددات الأخلاقية الجوهرية في الإسلام التي تعين لها مستويات تنزيلها المتعددة التي تعتريها ضوابط الأسباب والشروط والموانع.. حسب اصطلاحات الأصوليين.
لم يقل أحد من فقهاء الإسلام السنّة إن الدولة أصل من أصول الاعتقاد، ولم يعتبر أحد منهم أن السياسي قادر على تجسيد الدين، وما فهمه براغ من علاقة التكليف المباشرة بين الله وعباده لم يفهم منها مفكرو الإسلام الأوائل انسحاب الإنسان وغيابه بل مركزيته الأنطولوجبة والتأويلية التي قد تصل إلى حد أن يكون الله، كما في الحديث القدسي الصحيح، السمع الذي يسمع به العبد والبصر الذي يبصر به.