بدلاً من تدعيم رؤية مستقرة لأفغانستان، ركزت محادثات السلام على تحقيق انتصارات سياسية لـ«طالبان» والإدارة الأميركية. ومع إضفاء المشروعية على «طالبان» ودون التوصل إلى اتفاق سلام، فالحرب والعنف سيتصاعدان.
بتغريداته على «تويتر»، قضي الرئيس دونالد ترامب، يوم السبت قبل الماضي، على محادثات السلام المعدة سراً مع «طالبان» في كامب ديفيد. وتسائل ترامب على «تويتر»، قائلاً: «ما نوعية أشخاص يقتلون عدداً كبيراً للغاية من الناس، كي يعززوا فيما يبدو موقفهم التفاوضي؟»، وكانت رغبة ترامب في التفاوض مع النظام الذي آوى تنظيم «القاعدة» قد أثار غضباً واسع النطاق. لكن إذا كان للتاريخ أي حكم، فإن الإلغاء المفاجئ للمحادثات هو ما يجب أن يثير قلق الأميركيين والأفغان. وهذه ليست المرة الأولى التي تدير فيها الولايات المتحدة ظهرها لاتفاق سلام في أفغانستان. والمرة السابقة التي فعلت فيه هذا، كانت النتيجة أن عاث نظام «طالبان» خلال العقود القليلة الماضية، في الأرض فساداً.
ففي عام 1988، وقعت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وباكستان وحكومة أفغانستان اتفاقات جنيف، مما أنهى ما يقرب من عقد من الغزو والاحتلال السوفييتي لأفغانستان. وآنذاك وافق الاتحاد السوفييتي حينها على سحب قواته من أفغانستان، بينما وعدت الولايات المتحدة بقطع التمويل عن التمرد. ووجدت حكومة الرئيس نجيب الله، في ذاك الوقت، نفسها في موقف حرج. فكي تصمد الحكومة، كان يتعين عليها التوصل إلى اتفاق داعم، بالإضافة إلى تأكيدات بالدعم السياسي المستمر، لكنها لم تتلق شيئاً من هذا.
وبدلاً من هذا، همشت محادثات السلام لعام 1988 اللاعبين الحيويين في أفغانستان، وركزت على حاجات الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. وتجاهلت القوتان العظميان إلى حد كبير حياة الأفغان العاديين، والحاجة إلى إعادة إعمار البلاد بعد القتال، بل انتهكت الولايات المتحدة الاتفاقات بتسريبها التمويل إلى أيدي المتمردين لفترة من الوقت بعد الاتفاق، بينما كان الاتحاد السوفييتي مهتماً غالباً بسحب قواته سريعاً لأسباب سياسية داخلية.
ومن خلال تهميش حكومة نجيب الله إلى حد كبير، قضت القوتان على آمال الحكومة في إضفاء شرعية عليها باعتبارها لاعباً مهماً. وهذا ترك حكومة أفغانستان تصارع أزمة شرعية، وفي غضون أربع سنوات انهارت، لأنها كانت أضعف من أن تعالج الجروح القديمة المتقرحة، التي انفجرت في صورة حرب أهلية متعددة الأوجه تناحر فيها أصدقاء الأمس، وساعدت الولايات المتحدة في إذكاء هذه الحرب بتمويلها التمرد، وتسربت «طالبان» من شقوق التصدع في أفغانستان، واستولت سريعاً على السلطة، ورسخت أقدامها رغم المقاومة داخل البلاد وخارجها.
فقد تمخض سوء إدارة اتفاقات جنيف، عن ولادة «طالبان» مع ما صاحبها من تداعيات مدمرة ليس فقط على الأفغان الذين يعيشون مباشرة تحت سلطة الحركة، بل أيضاً لكل ضحايا الإرهاب المدعوم بهذا النظام. وظهور هذا النظام دفع الولايات المتحدة إلى شن حرب تدور رحاها منذ 18 عاماً. واليوم تواجه أفغانستان خطراً مشابهاً لذاك الذي واجهته عام 1988. فعلى مدار شهور تفاوضت الولايات المتحدة، من خلال مبعوثها زلماي خليل زاد، مع زعماء «طالبان.»، وأعلن كل طرف عن رغبته في السلام، لكن الهدف الأساسي لكلا الطرفين كان سحب القوات الأميركية من أفغانستان، وهو هدف يستطيع كل طرف أن يسوقه باعتباره انتصاراً، فبوسع ترامب الإشادة به باعتباره وعداً انتخابياً أبر به، بينما تستطيع «طالبان» تقديمه، باعتباره تحقيقاً لحلم إجلاء القوات الأجنبية عن أراضي أفغانستان.
والمفاوضات مع «طالبان» تلقي الضوء على مدى ضعف استعداد الإدارة الأميركية للتوصل إلى سلام قادر على الصمود، فكما كان الحال عام 1988، أبعد خليل زاد اللاعبين المهمين في المستقبل السياسي لأفغانستان، فقد أيد الحكومة الأفغانية وتجاهل معظم المجتمع المدني الأفغاني، بما في ذلك قطاعات حيوية من السكان مثل النساء والأقليات العرقية والدينية، وربما أراد خليل زاد باستبعاد هذه الأطراف إرضاء «طالبان»، لكن هذا ألقى بالشكوك على المحادثات منذ البداية.
وفي تكرار غريب لأصداء 1988، أضرت هذه المناورة المتهورة بالفعل بالوضع القلق أصلاً للحكومة الأفغانية، التي ترى قطاعات من المجتمع الأفغاني بأنها «أداة» في يد الأميركيين. وهذا التحرك دعم أيضاً حركة «طالبان» العنيفة باعتبارها شريكاً في صنع السلام، وبدلاً من تدعيم رؤية مستقرة لأفغانستان بعد الحرب، ركزت محادثات السلام على تحقيق انتصارات سياسية لكل من «طالبان» والإدارة الأميركية.
والتاريخ يعلمنا، أن عواقب محاولة إدارة ترامب غير المتأنية سيتحمل مغبتها الأفغان أنفسهم، وفي الآونة الأخيرة، جانب التوفيق ترامب حين صرح أن بوسعه الفوز بالحرب في أفغانستان لو كان مستعداً لقتل عشرة ملايين أفغاني. فقد رأى الأفغان في هذا التصريح دلالة على قلة اكتراث الإدارة الأميركية بأرواحهم، وهشاشة محادثات السلام ثم انهيارها، يعزز هذه الرسالة ببساطة، ومع إضفاء المشروعية على طالبان ودون التوصل إلى اتفاق سلام، فالحرب والعنف سيتصاعدان على الأرجح.
علي أيه. أولومي
أستاذ تاريخ مساعد في جامعة بنسلفانيا متخصص في تاريخ الشرق الأوسط والإسلام.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»