في ربط حصيف بين مبدأ الحرية الدينية والقيم الإنسانية المشتركة، أعاد معالي الشيخ عبدالله بن بيه، رئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، تصور مفهوم التسامح، وهو المفهوم المركزي الذي تبنته دولة الإمارات خياراً مجتمعياً ديبلوماسياً وخصصت العام الجاري للاحتفاء به.
ما يجب التنويه به هنا هو أن مقولة التسامح في المعجم العربي تختلف في الدلالة عن مقولة tolerance المستخدمة في جل اللغات الأوربية، من حيث كونها تجمع ما بين الليونة والتساهل من جهة، والكرم والسخاء من جهة أخرى، في حين لا تعني الكلمة اللاتينية أكثر من معنى التحمل.
ولقد طرح مفهوم التسامح منذ دخوله في المدونة الفلسفية خلال القرن السابع عشر الميلادي مشكلة نظرية كبرى صاغتها مفارقة الشاعر الألماني «غوته» الشهيرة، والتي مفادها أن التسامح يعني في آن واحد القبول والازدراء، أي تحمّل المخالف مع الانطلاق مسبقاً من اعتباره مغايراً نوعيا لا سبيل للحوار أو التوافق معه، ولذا فإن دلالته لا تتجاوز التعايش القسري.
ومن المعروف أن مفهوم التسامح في نسختيه، الليبرالية الانجليزية (جون لوك) والتنويرية الفرنسية (فولتير وبايل)، ظهر في سياق مزدوج: الحروب الدينية الفظيعة التي فرضت بناء مدونة قانونية تحمي السلم الأهلي بتكريس حياد الدولة وحقوق المجموعات العقدية في العيش، والصراع الفلسفي اللاهوتي الذي أفضى لمبدأ حرية الوعي والتفكير.
إن تلك الديناميكية المزدوجة أفرزت مفهوماً أمنياً قانونياً للتسامح، بالنظر للعجز عن حسم الصراعات العقدية والفكرية القائمة، وذلك ما لاحظه الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط الذي اعتبر أن مفهوم التسامح يتعارض مع مبدأ التنوير الذي هو الاستخدام العمومي للعقل، ما دام التسامح يعني الإقرار بالعجز عن حسم القضايا الخلافية الجوهرية باللغة البرهانية العقلية، ومن ثم إحالتها إلى الوعي الذاتي كمعتقدات فردية خاصة جداً.
إن ميزة هذا الربط الذي يدعو إليه العلّامة الشيخ عبدلله بن بية بين التسامح والأخوّة الإنسانية من حيث المشتركات المعيارية بين أتباع الديانات و«المذاهب المعنوية» إجمالا (حسب عبارة جون رولز)، هي كونه يُخرِج مفهوم التسامح من مجرد دلالة التعايش القسري إلى دلالة الرابطة القيمية والعقدية الجامعة، بما تفضي إليه من إمكانات تعارف وتضامن تتجاوز حيز التحمّل والقبول إلى مقام الضيافة والأخوّة.
ولا يعني الأمر هنا إلغاء الاختلافات وتقويض الهويات المتمايزة، إما من منظور حلولي اتحادي وهمي (وحدة الأديان والملل)، أو من منظور ابستمولوجي يحتكر المعقولية والحقيقة. فمن البديهي أن كل الهويات العقدية أو الدينية لها تصوراتها الجوهرية التي تنجرّ عنها أنماط عيش مشتركة لا يمكن إخضاعها للحسم المعرفي أو القانوني، بيد أن مفهوم التسامح في دلالته الإيجابية (التي تخرج عن مجرد التعايش والتحمّل) يتضمن مبدأ التحاور والتفاهم ضمن ما دعاه الفيلسوف الأميركي جون رولز «الاختلافات المعقولة» التي لا ينجرّ عنها إجماع كامل، وإنما «توافق تركيبي» يمكن أن يكون قاعدة صلبة لسياسات تضامن فاعلة وناجعة.
وكان «بول ريكور» قد تحدث في أعماله الأخيرة عن «نضوب مفهوم التسامح»، نتيجة لأن هذا المفهوم يحمل منذ نشأته دلالة سلبية تتمثل في تخطئة الآخر وإقصائه مع تحمّله، معتبِراً أن الديانات التوحيدية قادرة على بلورة مفهوم بديل يستند إلى الثراء التأويلي الواسع لمفهوم التوحيد نفسه، الذي يمنع أي محاولة لحصر المطلق الإلهي في صور نظرية أو معيارية جزئية، ومن هنا تعدد المسالك إلى الحق باعتبار التناهي البشري فهماً وممارسةً.
إن هذا التصور الذي لا يختلف في الجوهر عن بعض المقاربات الصوفية الإسلامية، يتميز عن التصور القانوني الإجرائي للتسامح في الأفق التأويلي الذي يدشنه للتعارف والاعتراف، وإن كانت الضوابط القانونية لا غنى عنها لتنظيم الحريات وضمان التعايش السلمي بين مجموعات متمايزة ليست في غالب الأحيان قادرة على حسم خلافاتها بالحوار البرهاني العقلي.
وفي العقود الأخيرة انتقل النقاش في المجتمعات الليبرالية الغربية من مبدأ التسامح إلى مقولة «ما لا يمكن السماح به»، ضمن نقاش نظري متواصل حول الإشكال الذي تطرحه العلاقة بين الحرية كمعيار نظري غير مقيد بسقف دلالي مسبق والمدونة المعيارية لليبرالية التي وإن كانت هي التجسيد العملي لمقولة الحرية إلا أنها من وجه آخر سقف قيمي غير خاضع للنقاش والتداول.
ومن هنا السؤال المطروح حول مدى وجاهة التسامح والقبول إزاء الأيديولوجيات والمعتقدات غير المتسامحة التي إن كان لها من حيث المبدأ حق القبول من منظور حرية الوعي والتعبير، فهي من حيث مآلاتها خطر على واقع التعددية ومعايير السلم الأهلي.
ما يجب التنويه به هنا هو أن مقولة التسامح في المعجم العربي تختلف في الدلالة عن مقولة tolerance المستخدمة في جل اللغات الأوربية، من حيث كونها تجمع ما بين الليونة والتساهل من جهة، والكرم والسخاء من جهة أخرى، في حين لا تعني الكلمة اللاتينية أكثر من معنى التحمل.
ولقد طرح مفهوم التسامح منذ دخوله في المدونة الفلسفية خلال القرن السابع عشر الميلادي مشكلة نظرية كبرى صاغتها مفارقة الشاعر الألماني «غوته» الشهيرة، والتي مفادها أن التسامح يعني في آن واحد القبول والازدراء، أي تحمّل المخالف مع الانطلاق مسبقاً من اعتباره مغايراً نوعيا لا سبيل للحوار أو التوافق معه، ولذا فإن دلالته لا تتجاوز التعايش القسري.
ومن المعروف أن مفهوم التسامح في نسختيه، الليبرالية الانجليزية (جون لوك) والتنويرية الفرنسية (فولتير وبايل)، ظهر في سياق مزدوج: الحروب الدينية الفظيعة التي فرضت بناء مدونة قانونية تحمي السلم الأهلي بتكريس حياد الدولة وحقوق المجموعات العقدية في العيش، والصراع الفلسفي اللاهوتي الذي أفضى لمبدأ حرية الوعي والتفكير.
إن تلك الديناميكية المزدوجة أفرزت مفهوماً أمنياً قانونياً للتسامح، بالنظر للعجز عن حسم الصراعات العقدية والفكرية القائمة، وذلك ما لاحظه الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط الذي اعتبر أن مفهوم التسامح يتعارض مع مبدأ التنوير الذي هو الاستخدام العمومي للعقل، ما دام التسامح يعني الإقرار بالعجز عن حسم القضايا الخلافية الجوهرية باللغة البرهانية العقلية، ومن ثم إحالتها إلى الوعي الذاتي كمعتقدات فردية خاصة جداً.
إن ميزة هذا الربط الذي يدعو إليه العلّامة الشيخ عبدلله بن بية بين التسامح والأخوّة الإنسانية من حيث المشتركات المعيارية بين أتباع الديانات و«المذاهب المعنوية» إجمالا (حسب عبارة جون رولز)، هي كونه يُخرِج مفهوم التسامح من مجرد دلالة التعايش القسري إلى دلالة الرابطة القيمية والعقدية الجامعة، بما تفضي إليه من إمكانات تعارف وتضامن تتجاوز حيز التحمّل والقبول إلى مقام الضيافة والأخوّة.
ولا يعني الأمر هنا إلغاء الاختلافات وتقويض الهويات المتمايزة، إما من منظور حلولي اتحادي وهمي (وحدة الأديان والملل)، أو من منظور ابستمولوجي يحتكر المعقولية والحقيقة. فمن البديهي أن كل الهويات العقدية أو الدينية لها تصوراتها الجوهرية التي تنجرّ عنها أنماط عيش مشتركة لا يمكن إخضاعها للحسم المعرفي أو القانوني، بيد أن مفهوم التسامح في دلالته الإيجابية (التي تخرج عن مجرد التعايش والتحمّل) يتضمن مبدأ التحاور والتفاهم ضمن ما دعاه الفيلسوف الأميركي جون رولز «الاختلافات المعقولة» التي لا ينجرّ عنها إجماع كامل، وإنما «توافق تركيبي» يمكن أن يكون قاعدة صلبة لسياسات تضامن فاعلة وناجعة.
وكان «بول ريكور» قد تحدث في أعماله الأخيرة عن «نضوب مفهوم التسامح»، نتيجة لأن هذا المفهوم يحمل منذ نشأته دلالة سلبية تتمثل في تخطئة الآخر وإقصائه مع تحمّله، معتبِراً أن الديانات التوحيدية قادرة على بلورة مفهوم بديل يستند إلى الثراء التأويلي الواسع لمفهوم التوحيد نفسه، الذي يمنع أي محاولة لحصر المطلق الإلهي في صور نظرية أو معيارية جزئية، ومن هنا تعدد المسالك إلى الحق باعتبار التناهي البشري فهماً وممارسةً.
إن هذا التصور الذي لا يختلف في الجوهر عن بعض المقاربات الصوفية الإسلامية، يتميز عن التصور القانوني الإجرائي للتسامح في الأفق التأويلي الذي يدشنه للتعارف والاعتراف، وإن كانت الضوابط القانونية لا غنى عنها لتنظيم الحريات وضمان التعايش السلمي بين مجموعات متمايزة ليست في غالب الأحيان قادرة على حسم خلافاتها بالحوار البرهاني العقلي.
وفي العقود الأخيرة انتقل النقاش في المجتمعات الليبرالية الغربية من مبدأ التسامح إلى مقولة «ما لا يمكن السماح به»، ضمن نقاش نظري متواصل حول الإشكال الذي تطرحه العلاقة بين الحرية كمعيار نظري غير مقيد بسقف دلالي مسبق والمدونة المعيارية لليبرالية التي وإن كانت هي التجسيد العملي لمقولة الحرية إلا أنها من وجه آخر سقف قيمي غير خاضع للنقاش والتداول.
ومن هنا السؤال المطروح حول مدى وجاهة التسامح والقبول إزاء الأيديولوجيات والمعتقدات غير المتسامحة التي إن كان لها من حيث المبدأ حق القبول من منظور حرية الوعي والتعبير، فهي من حيث مآلاتها خطر على واقع التعددية ومعايير السلم الأهلي.