أيام الاحتجاجات العربية في مطلع العقد الحالي انشغلت الشعوب بالسياسة انشغالاً واسعاً، حتى أن الطبقات والشرائح التي كانت ساعية طيلة الوقت وراء أرزاقها الشحيحة، غير مجذوبة إلى أي حديث في الشأن العام، وجدت نفسها في قلب السياسة، ثرثرة ورؤى وتصورات واتجاهات وممارسات ورغبات، فالشارع كان مشتعلاً بها، ووسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة والإلكترونية كانت تطارد أسماع الناس وأبصارهم، ليل نهار، وأطلت عليهم وجوه جديدة كانت محجوبة ومقموعة فيما سبق، وكل جديد يستحق المتابعة إلى حين، فبعضه يمكث، وبعضه يذهب كأنه زبد.
هكذا ملأت الشعوب باهتمامها وانخراطها الفراغ السياسي الذي كان يحط على رؤوس الكثيرين قبل انطلاق الاحتجاجات، فألقت فيه الكثير من مقولاتها وشعاراتها وإشاراتها وعباراتها ومطالبها، التي اكتست بها الشوارع والميادين.
وانقسمت أصداء هذا الحضور، فبعضها كانت مرحبة بارتقاء وعي الطبقات التي كانت لامبالية أو منصرفة عن السياسة عبر ربطها، لأول مرة، بين أحوالها المادية الصعبة وبين إدارة السياسات العليا. ورأى هذا الفصيل من النخبة أن هذا الحضور يساعد على تبديد فراغ طالما شغلته السلطات الحاكمة بإجراءاتها وقراراتها ومناصريها، فملأت كل مساحة انحسر عنها الناس بتصرفات معينة كان أغلبها ليس في صالحهم.
أما الفصيل الثاني فضاق ذرعاً بحضور الجماهير إلى المشهد السياسي بعد طول غياب، لثلاثة أسباب، الأول هو الخوف من أن يجذب عموم الناس المسار الثوري إلى تحقيق رغباتهم ومصالحهم الشخصية الصغيرة والعابرة على حساب المصلحة العامة التي يحتاج الانتصار لها إلى صبر وجهد وتجرد وإصرار. والثاني كان يخشى من أن تتحول الجماهير بمرور الوقت إلى الانحياز لمنطق ومصلحة القوى المضادة للثورة. أما الثالث فكان يعود إلى أنانية بعض الثوار ونرجسيتهم والتي مثلت الوجه الآخر للسلطة التي ثاروا عليها، حيث رغب هؤلاء في أن يظل الفراغ قائما، ولا يسعى إلى ملئه أحد سواهم.
ولم يمر وقت طويل حتى أدى الصراع على السلطة، وغياب اليقين، وعودة الغموض، وتردي الأوضاع الاقتصادية والأمنية، إلى انسحاب هذه الجماهير، وعودتها مرة أخرى إلى اللامبالاة، مكتفية بحبس وعيها داخل رؤوسها، ومنصرفة إلى شأنها اليومي العابر.
ولم يكن هذا الانسحاب في معناه الحقيقي سوى صناعة فراغ جديد، قد يكون مختلفا في مساحته أو هيئته عما كان قبل المد الثوري، لكنه في كل الأحوال هو مغرٍ لأي قوة سياسية كي تنظر إليه في لهفة، وتمد أقدامها لتشغله، بطريقة ناعمة كانت أو خشنة، فهذا من طبيعة الأشياء، وحقائق الأمور.
وكان من الممكن أن يظل الفراغ مشغولاً بالجماهير، لو أن حضورها في الشوارع قد انتظم في مؤسسات سياسية مشروعة وشرعية وعلنية ومتعارف عليها في الدول المستقرة سياسيا، والتي تعرف أشكالاً عدة من المشاركة السياسية، لكن سرعان ما انزلقت الانتفاضات إلى حروب أهلية، وفتن، وصعود جماعات لا تريد الجماهير إلا تابعة مطيعة، وأخرى أدى سلوكها العدواني إلى فتح باب لقوى خارجية كي تتدخل بغية ملء الفراغ الذي ساد في بعض الدول مثل سوريا، أو تمنع قوى أخرى من ملئه مثلما فعل «التحالف العربي» في اليمن حين تدخل ليقطع الطريق على إيران. كما برزت على السطح قوى أخرى تقليدية اعتادت الهيمنة على السلطة بأدواتها الإكراهية، وآلت إليها الغلبة حتى الآن.
وترتب على كل هذا عودة الفراغ السياسي، القائم هذه المرة ليس فقط على اللامبالاة، إنما على التبلد الإدراكي، بعدما صار الناس يتعاملون مع الدم الذي يسيل على أنه أمر اعتيادي، وأصبح بعضهم يؤثر السلامة، نظراً لأنهم يرون خطراً داهماً عليهم في أي حركة يقومون بها حيال هذا الفراغ كي يشغلوا حيزاً منه، حتى أي رغبة أو مصلحة.
هكذا ملأت الشعوب باهتمامها وانخراطها الفراغ السياسي الذي كان يحط على رؤوس الكثيرين قبل انطلاق الاحتجاجات، فألقت فيه الكثير من مقولاتها وشعاراتها وإشاراتها وعباراتها ومطالبها، التي اكتست بها الشوارع والميادين.
وانقسمت أصداء هذا الحضور، فبعضها كانت مرحبة بارتقاء وعي الطبقات التي كانت لامبالية أو منصرفة عن السياسة عبر ربطها، لأول مرة، بين أحوالها المادية الصعبة وبين إدارة السياسات العليا. ورأى هذا الفصيل من النخبة أن هذا الحضور يساعد على تبديد فراغ طالما شغلته السلطات الحاكمة بإجراءاتها وقراراتها ومناصريها، فملأت كل مساحة انحسر عنها الناس بتصرفات معينة كان أغلبها ليس في صالحهم.
أما الفصيل الثاني فضاق ذرعاً بحضور الجماهير إلى المشهد السياسي بعد طول غياب، لثلاثة أسباب، الأول هو الخوف من أن يجذب عموم الناس المسار الثوري إلى تحقيق رغباتهم ومصالحهم الشخصية الصغيرة والعابرة على حساب المصلحة العامة التي يحتاج الانتصار لها إلى صبر وجهد وتجرد وإصرار. والثاني كان يخشى من أن تتحول الجماهير بمرور الوقت إلى الانحياز لمنطق ومصلحة القوى المضادة للثورة. أما الثالث فكان يعود إلى أنانية بعض الثوار ونرجسيتهم والتي مثلت الوجه الآخر للسلطة التي ثاروا عليها، حيث رغب هؤلاء في أن يظل الفراغ قائما، ولا يسعى إلى ملئه أحد سواهم.
ولم يمر وقت طويل حتى أدى الصراع على السلطة، وغياب اليقين، وعودة الغموض، وتردي الأوضاع الاقتصادية والأمنية، إلى انسحاب هذه الجماهير، وعودتها مرة أخرى إلى اللامبالاة، مكتفية بحبس وعيها داخل رؤوسها، ومنصرفة إلى شأنها اليومي العابر.
ولم يكن هذا الانسحاب في معناه الحقيقي سوى صناعة فراغ جديد، قد يكون مختلفا في مساحته أو هيئته عما كان قبل المد الثوري، لكنه في كل الأحوال هو مغرٍ لأي قوة سياسية كي تنظر إليه في لهفة، وتمد أقدامها لتشغله، بطريقة ناعمة كانت أو خشنة، فهذا من طبيعة الأشياء، وحقائق الأمور.
وكان من الممكن أن يظل الفراغ مشغولاً بالجماهير، لو أن حضورها في الشوارع قد انتظم في مؤسسات سياسية مشروعة وشرعية وعلنية ومتعارف عليها في الدول المستقرة سياسيا، والتي تعرف أشكالاً عدة من المشاركة السياسية، لكن سرعان ما انزلقت الانتفاضات إلى حروب أهلية، وفتن، وصعود جماعات لا تريد الجماهير إلا تابعة مطيعة، وأخرى أدى سلوكها العدواني إلى فتح باب لقوى خارجية كي تتدخل بغية ملء الفراغ الذي ساد في بعض الدول مثل سوريا، أو تمنع قوى أخرى من ملئه مثلما فعل «التحالف العربي» في اليمن حين تدخل ليقطع الطريق على إيران. كما برزت على السطح قوى أخرى تقليدية اعتادت الهيمنة على السلطة بأدواتها الإكراهية، وآلت إليها الغلبة حتى الآن.
وترتب على كل هذا عودة الفراغ السياسي، القائم هذه المرة ليس فقط على اللامبالاة، إنما على التبلد الإدراكي، بعدما صار الناس يتعاملون مع الدم الذي يسيل على أنه أمر اعتيادي، وأصبح بعضهم يؤثر السلامة، نظراً لأنهم يرون خطراً داهماً عليهم في أي حركة يقومون بها حيال هذا الفراغ كي يشغلوا حيزاً منه، حتى أي رغبة أو مصلحة.