«هناك انعدام ثقة واضح داخل عواصم حلف الناتو في إمكانية الاعتماد على الولايات المتحدة كحليف عسكري».
هل يبدو لك هذا مألوفاً؟ إنه مقتطف من تقرير منشور في صحيفة «نيويورك تايمز» بتاريخ 7 أكتوبر 1979. وعليه، فدونالد ترامب ليس أول رئيس أميركي يَنظر إليه حلفاءُ الولايات المتحدة نظرةً متشككةً.
وقتئذ، كان السؤال هو ما إنْ كان جيمي كارتر سيرد على نشر الاتحاد السوفييتي لصاروخ «إس إس 20»، وهو صاروخ نووي متوسط المدى كان يهدد المنشآت العسكرية في أوروبا الغربية، ولم يكن لدى التحالف الأطلسي نظير له. وفي وقت لاحق من تلك السنة، وافق «كارتر» على نشر الولايات المتحدة للمئات من صواريخ «بيرشينغ 2» وصواريخ كروز متوسطة المدى في أوروبا رداً على ذلك، وهي سياسة أكملتها إدارة ريغان في أوائل الثمانينيات.
التاريخ جدير بالتذكر الآن، وقد خرجت الولايات المتحدة رسمياً من معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى لعام 1987، عقب عدة سنوات من المحاولات الدبلوماسية الفاشلة لجعل الروس يلتزمون بتلك الاتفاقيات. فقد قامت موسكو بشكل سري بنشر ما يقدر بـ100 صاروخ كروز «مصممة لاستهداف البنية التحتية الاقتصادية والعسكرية الأوروبية الحساسة، وبالتالي قادرة على ترهيب الحلفاء في الناتو»، وفق «دان كوتس»، المدير السابق للاستخبارات الوطنية. كما يُعتقد أن روسيا تخرق معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية لعام 1996.
يحدث هذا في وقت تواجه فيه الولايات المتحدة تحديات على جبهات نووية متعددة. فالصين تقوم بتحديث أسلحتها النووية ومن المتوقع أن تضاعف مخزونها النووي في غضون عشر سنوات، وفق وكالة استخبارات الدفاع. وكوريا الشمالية تواصل اختبار الصواريخ ولا تبدي مؤشراً على الرغبة في التخلي عن قنابلها في إطار اتفاق مع ترامب. وباكستان تعمل على توسيع ترسانتها بسرعة، ما يزيد من إمكانية سقوط رأس حربية في أيدي إرهابيين. واستئناف إيران لأنشطتها النووية، الذي يمثّل تهديداً جسيماً في حد ذاته، بات يغري منافسين إقليميين بأن يسيروا على خطاها.
فما الذي ينبغي فعله؟
الجواب المألوف هو مزيد من مراقبة الأسلحة. فقد حاجج البعض بأنه ينبغي للولايات المتحدة أن تستمر في احترام معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى بغض النظر عن الانتهاكات الروسية. غير أن المشكلة بخصوص كل اتفاقيات مراقبة الأسلحة هو أن الأشرار يغشّون، والأخيار لا يفعلون، والعالم كثيرا ما يكتشف ذلك بعد فوات الأوان.
فتاريخياً كانت ألمانيا تغش بخصوص القيود على الأسلحة التي فرضتها معاهدة فرساي. والاتحاد السوفييتي كان يغش بخصوص كل الاتفاقيات الدولية تقريباً، بما في ذلك معاهدة الحظر الجزئي للتجارب المحدودة لعام 1963 ومعاهدة حظر الصواريخ الباليستية لعام 1972. وإيران انتهكت بشكل متكرر التزاماتها في إطار اتفاقية حظر الانتشار النووي، والاتفاق النووي الإيراني نفسه.
والآن ها هي روسيا تغش مرة أخرى.
وعلى غرار ما كان عليه الحال في السبعينيات، فإن الخطر الأول يكمن في إمكانية تهديد موسكو لأحد الحلفاء في «الناتو» على نحو لا يمنح الولايات المتحدة إمكانية الرد على نحو متناسب – إما الاستسلام أو التصعيد. وهذا ينبغي أن يثير قلق منتقدي ترامب (وأنا واحد منهم) الذين يرون أن موقفه يتميز بالغموض على نحو خطير بشأن الضمانات الأمنية الأميركية لحلفاء منكشفة ظهورهم مثل إيستونيا.
وهذا الخطر نفسه موجود في شرق آسيا أيضاً. فأي تحركات تستخدم الصين فيها القوة مستقبلاً، ستكشف كل الضمانات الأمنية الأميركية باعتبارها ضمانات مشكوك فيها، حتى لا نقول عديمة القيمة. وسيمثّل دعوة للاعتداء من قبل قوى أخرى تريد تغيير الوضع الراهن في مناطق أخرى من العالم. كما سيشكّل رسالة لبلدان أخرى مثل اليابان وكوريا الجنوبية للسعي للحصول على ترسانة نووية خاصة بها. ولا شك أن من يكرهون الأسلحة النووية في أيدي الولايات المتحدة سيكرهونها أكثر في أيدي هذه الدول.
ومن هنا جاء منطق الردع النووي الأميركي، مثل «الردع الممتد» الذي وفّرته الإدارات «الديمقراطية» و«الجمهورية» لحلفائنا لأكثر من 70 عاماً، غير أن هذا المنطق يتمثل في الحفاظ على ترسانة كبيرة وحديثة ومتوازنة لا تحتوي على أي فراغ في دورة تصعيد ممكنة. والحال أن الترسانة الأميركية في الوقت الراهن تعاني بعض الفراغات، بفضل الخروقات الروسية للمعاهدة، ومن الضعف على نحو متزايد، بسبب تأخير عملية التحديث، وقد لا تكون كبيرة بما يكفي في وجه خصمين نوويين كبيرين.
لقد بدأتُ هذا المقال بجيمي كارتر لكي أوضّح نقطتين بسيطتين، وهما أن الولايات المتحدة سبق لها أن تخطت تحديات مماثلة، وأن الرؤساء الليبراليين فهموا الحاجة إلى نطاق واسع من الأسلحة النووية. وسأضيف نقطة ثالثة ومؤداها أن قرار كارتر الصارم بنشر الصواريخ في أوروبا، وأكثر من قرار ريجان القاضي بإزالتها، هو الذي أسهم بشكل كبير في كسب الحرب الباردة.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»
https://www.nytimes.com/2019/08/09/opinion/russia-nuclear-treaty-inf.html
هل يبدو لك هذا مألوفاً؟ إنه مقتطف من تقرير منشور في صحيفة «نيويورك تايمز» بتاريخ 7 أكتوبر 1979. وعليه، فدونالد ترامب ليس أول رئيس أميركي يَنظر إليه حلفاءُ الولايات المتحدة نظرةً متشككةً.
وقتئذ، كان السؤال هو ما إنْ كان جيمي كارتر سيرد على نشر الاتحاد السوفييتي لصاروخ «إس إس 20»، وهو صاروخ نووي متوسط المدى كان يهدد المنشآت العسكرية في أوروبا الغربية، ولم يكن لدى التحالف الأطلسي نظير له. وفي وقت لاحق من تلك السنة، وافق «كارتر» على نشر الولايات المتحدة للمئات من صواريخ «بيرشينغ 2» وصواريخ كروز متوسطة المدى في أوروبا رداً على ذلك، وهي سياسة أكملتها إدارة ريغان في أوائل الثمانينيات.
التاريخ جدير بالتذكر الآن، وقد خرجت الولايات المتحدة رسمياً من معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى لعام 1987، عقب عدة سنوات من المحاولات الدبلوماسية الفاشلة لجعل الروس يلتزمون بتلك الاتفاقيات. فقد قامت موسكو بشكل سري بنشر ما يقدر بـ100 صاروخ كروز «مصممة لاستهداف البنية التحتية الاقتصادية والعسكرية الأوروبية الحساسة، وبالتالي قادرة على ترهيب الحلفاء في الناتو»، وفق «دان كوتس»، المدير السابق للاستخبارات الوطنية. كما يُعتقد أن روسيا تخرق معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية لعام 1996.
يحدث هذا في وقت تواجه فيه الولايات المتحدة تحديات على جبهات نووية متعددة. فالصين تقوم بتحديث أسلحتها النووية ومن المتوقع أن تضاعف مخزونها النووي في غضون عشر سنوات، وفق وكالة استخبارات الدفاع. وكوريا الشمالية تواصل اختبار الصواريخ ولا تبدي مؤشراً على الرغبة في التخلي عن قنابلها في إطار اتفاق مع ترامب. وباكستان تعمل على توسيع ترسانتها بسرعة، ما يزيد من إمكانية سقوط رأس حربية في أيدي إرهابيين. واستئناف إيران لأنشطتها النووية، الذي يمثّل تهديداً جسيماً في حد ذاته، بات يغري منافسين إقليميين بأن يسيروا على خطاها.
فما الذي ينبغي فعله؟
الجواب المألوف هو مزيد من مراقبة الأسلحة. فقد حاجج البعض بأنه ينبغي للولايات المتحدة أن تستمر في احترام معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى بغض النظر عن الانتهاكات الروسية. غير أن المشكلة بخصوص كل اتفاقيات مراقبة الأسلحة هو أن الأشرار يغشّون، والأخيار لا يفعلون، والعالم كثيرا ما يكتشف ذلك بعد فوات الأوان.
فتاريخياً كانت ألمانيا تغش بخصوص القيود على الأسلحة التي فرضتها معاهدة فرساي. والاتحاد السوفييتي كان يغش بخصوص كل الاتفاقيات الدولية تقريباً، بما في ذلك معاهدة الحظر الجزئي للتجارب المحدودة لعام 1963 ومعاهدة حظر الصواريخ الباليستية لعام 1972. وإيران انتهكت بشكل متكرر التزاماتها في إطار اتفاقية حظر الانتشار النووي، والاتفاق النووي الإيراني نفسه.
والآن ها هي روسيا تغش مرة أخرى.
وعلى غرار ما كان عليه الحال في السبعينيات، فإن الخطر الأول يكمن في إمكانية تهديد موسكو لأحد الحلفاء في «الناتو» على نحو لا يمنح الولايات المتحدة إمكانية الرد على نحو متناسب – إما الاستسلام أو التصعيد. وهذا ينبغي أن يثير قلق منتقدي ترامب (وأنا واحد منهم) الذين يرون أن موقفه يتميز بالغموض على نحو خطير بشأن الضمانات الأمنية الأميركية لحلفاء منكشفة ظهورهم مثل إيستونيا.
وهذا الخطر نفسه موجود في شرق آسيا أيضاً. فأي تحركات تستخدم الصين فيها القوة مستقبلاً، ستكشف كل الضمانات الأمنية الأميركية باعتبارها ضمانات مشكوك فيها، حتى لا نقول عديمة القيمة. وسيمثّل دعوة للاعتداء من قبل قوى أخرى تريد تغيير الوضع الراهن في مناطق أخرى من العالم. كما سيشكّل رسالة لبلدان أخرى مثل اليابان وكوريا الجنوبية للسعي للحصول على ترسانة نووية خاصة بها. ولا شك أن من يكرهون الأسلحة النووية في أيدي الولايات المتحدة سيكرهونها أكثر في أيدي هذه الدول.
ومن هنا جاء منطق الردع النووي الأميركي، مثل «الردع الممتد» الذي وفّرته الإدارات «الديمقراطية» و«الجمهورية» لحلفائنا لأكثر من 70 عاماً، غير أن هذا المنطق يتمثل في الحفاظ على ترسانة كبيرة وحديثة ومتوازنة لا تحتوي على أي فراغ في دورة تصعيد ممكنة. والحال أن الترسانة الأميركية في الوقت الراهن تعاني بعض الفراغات، بفضل الخروقات الروسية للمعاهدة، ومن الضعف على نحو متزايد، بسبب تأخير عملية التحديث، وقد لا تكون كبيرة بما يكفي في وجه خصمين نوويين كبيرين.
لقد بدأتُ هذا المقال بجيمي كارتر لكي أوضّح نقطتين بسيطتين، وهما أن الولايات المتحدة سبق لها أن تخطت تحديات مماثلة، وأن الرؤساء الليبراليين فهموا الحاجة إلى نطاق واسع من الأسلحة النووية. وسأضيف نقطة ثالثة ومؤداها أن قرار كارتر الصارم بنشر الصواريخ في أوروبا، وأكثر من قرار ريجان القاضي بإزالتها، هو الذي أسهم بشكل كبير في كسب الحرب الباردة.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»
https://www.nytimes.com/2019/08/09/opinion/russia-nuclear-treaty-inf.html