في مقالة منشورة قبل أشهر في قرابة ثلاثين صحيفة أوروبية، دعا الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون إلى نهضة أوروبية جديدة يحملها المفكرون والساسة من أجل إخراج القارة العجوز من محنتها الراهنة، على غرار مشروع الأنوار في القرنين السابع عشر والثامن عشر الذي بلور المشروع الحداثي الأوروبي الذي أصبح نموذجاً للعالم كله من أجل النهوض والتطور.
ماكرون ذهب إلى أن المشروع الأوروبي الجديد ينبغي أن يتمحور حول ثلاثة مرتكزات هي: الحرية والحماية والتقدم، في مقابل الأيديولوجيات الشعبوية التي تجتاح راهناً القارة، وهي في توجهاتها العامة تمثل نكوصاً عن قيم التحديث والتنوير التي أسست التفوق الحضاري الأوروبي.
وكانت حركة التنوير بالفعل مشروعاً ثقافياً أوروبياً جماعياً، ساهمت فيها وجوه فكرية بارزة امتد تأثيرها إلى كل أصقاع القارة من روسيا إلى إيطاليا، ساهم فيها الفيلسوف الهولندي سبينوزا والإنجليزي جون لوك والفرنسي فولتير والسويسري روسو والألماني كانط.. إلخ.
ولقد تمحورت حركة التنوير حول إشكالات أربعة، أعتقد أنها مطروحة بحدة في ساحتنا العربية في اللحظة الراهنة، وهي: تأسيس الاجتماع السياسي المدني على قيم العقلانية والتسامح والعدالة بمفهومها القانوني المعبر عن الإرادة المشتركة والفصل بين السلطات، وترجمة المضامين الأخلاقية والقيمية للدين في لغة العقل العمومي، وبناء الفاعلية الاقتصادية الإنتاجية على أساس قيم الإنتاجية والإبداع والعمل الحر، وبناء منظومة قانونية وأخلاقية للسلم الدائم بين الأمم والشعوب لتفادي الحروب ولجم النزعات العدوانية العنيفة.
إن الآليات والحلول المختلفة التي طوّرها الفكر السياسي والاجتماعي الحديث في أوروبا لتجسيد هذه التوجهات الكبرى، قد تمايزت بحسب السياقات، وإنْ أخذت على العموم نماذج الدولة القومية الديمقراطية واقتصاد السوق الليبرالي ومدونة حقوق الإنسان المترجمة في المنظومة القانونية الوطنية والدولية.
ومع أن بعض الإرهاصات الأولى لحركة تنوير عربي ظهرت بقوة في بدايات ومنتصف القرن العشرين، وامتد نشاطها لمراكز النهوض العربي المتركزة أوانها في القاهرة وبيروت، إلا أنها لم تفض إلى تشكيل ديناميكية حقيقية فاعلة على غرار التجربة الأوروبية في القرنين السابع عشر والثامن عشر.
لقد تأرجحت حركة التنوير العربي في ثلاثة اتجاهات كبرى: اتجاه وضعي متشبع بالأيديولوجيا العلموية التي أُريد لها خطأً أن تؤسس لمنظومة اعتقاد جماعي بديلة (شبلي شميل..)، واتجاه علماني دعا إلى إقصاء الدين كلياً من الشأن العمومي (سلامة موسى..)، واتجاه ليبرالي تبنى قيم الحرية السياسية بمنظورها الفردي الخاص (أحمد لطفي السيد..). إلا أن حركة التنوير العربي لم تستفد من التجربة الأوروبية في الخلفيات الفلسفية العميقة وإنما اكتفت بالأثر الأيديولوجي المباشر لهذه الحركة دون تأسيس نظري معمق.
لقد أدرك هذه الحقيقة المفكر المصري زكي نجيب محمود الذي كان أحد المبشرين الأساسيين بالفلسفات الوضعية الجديدة التي اعتبرها مقوم النهوض العربي من البوابة العلمية التقنية، قبل أن يدرك في أعماله الناضجة الإشكالات النظرية والمجتمعية المعقدة التي يطرحها السؤال التراثي على الإنسان العربي المعاصر، من حيث رهانات التأويل والقراءة والسياسات العملية، بما لا يمكن إغفاله أو السكوت عنه من منطلقات تبشيرية نضالية.
وتصدق الملاحظة نفسها على الخطاب الليبرالي الداعي للديمقراطية التعددية، وعلى الخطاب الحقوقي المنطلق من مرجعيات النزعة الإنسانية اللائكية، باعتبارهما تعاملاً مع إشكالات الواقع العربي بلغة نضالية أيديولوجية دون تأسيس فكري رصين.
وهكذا بقي مشروع التنوير العربي معلقاً، وهو اليوم مطلب موضوعي جاد وعاجل للخروج من حالة الاحتقان واليأس التي يشهدها عالمنا العربي، سواء تعلق الأمر بمطلب البناء السياسي المؤسسي العقلاني لحقل المواطنة المتساوية في إطار دولة مركزية ناجعة، أو بمطلب نشر قيم التسامح والسلم والتضامن داخل مجتمعاتنا وفي علاقاتنا بالآخر، أو بالبناء الاقتصادي التنموي الناجح على أساس الفاعلية الإبداعية الإنتاجية.
وإذا كان الرئيس الفرنسي ماكرون قد لاحظ اختلالات المشروع الأوروبي ودعا إلى حركية نهوض جديد لانتشاله من مظاهر الخلل العميقة له، مع الوفاء لمنطلقاته المرجعية الثابتة، فإن مهمة النخبة السياسية العربية أكثر تعقيداً وصعوبة، ما دام المطلوب هو العودة النقدية لحركية التنوير العربي وبعثها من كبوتها الطويلة، في سياق مغاير فقدت فيه أفكار وقيم التنوير زخمها الأصلي وتعرضت لمسار تشويه ممتد، وإنْ كانت لا تزال مشروعاً للمستقبل يتطلب عمق التصور وشجاعة الإنجاز.
كان المفكر المغربي المرحوم محمد عابد الجابري يقول لي إن الكتاب العرب الذين نشروا أدبيات التفكيك ونقد الحداثة ونظروا للعقل بوصفه سلطة قهرية وإلى الدولة على أنها جهاز للرقابة والقمع، لا يدركون حجم الخطر الذي سببوه لمجتمعات ليست لها تقاليد حداثية حقيقية، والبديل فيها عن القيم العقلانية المدنية هو الهويات العصبية والتطرف الديني.
ماكرون ذهب إلى أن المشروع الأوروبي الجديد ينبغي أن يتمحور حول ثلاثة مرتكزات هي: الحرية والحماية والتقدم، في مقابل الأيديولوجيات الشعبوية التي تجتاح راهناً القارة، وهي في توجهاتها العامة تمثل نكوصاً عن قيم التحديث والتنوير التي أسست التفوق الحضاري الأوروبي.
وكانت حركة التنوير بالفعل مشروعاً ثقافياً أوروبياً جماعياً، ساهمت فيها وجوه فكرية بارزة امتد تأثيرها إلى كل أصقاع القارة من روسيا إلى إيطاليا، ساهم فيها الفيلسوف الهولندي سبينوزا والإنجليزي جون لوك والفرنسي فولتير والسويسري روسو والألماني كانط.. إلخ.
ولقد تمحورت حركة التنوير حول إشكالات أربعة، أعتقد أنها مطروحة بحدة في ساحتنا العربية في اللحظة الراهنة، وهي: تأسيس الاجتماع السياسي المدني على قيم العقلانية والتسامح والعدالة بمفهومها القانوني المعبر عن الإرادة المشتركة والفصل بين السلطات، وترجمة المضامين الأخلاقية والقيمية للدين في لغة العقل العمومي، وبناء الفاعلية الاقتصادية الإنتاجية على أساس قيم الإنتاجية والإبداع والعمل الحر، وبناء منظومة قانونية وأخلاقية للسلم الدائم بين الأمم والشعوب لتفادي الحروب ولجم النزعات العدوانية العنيفة.
إن الآليات والحلول المختلفة التي طوّرها الفكر السياسي والاجتماعي الحديث في أوروبا لتجسيد هذه التوجهات الكبرى، قد تمايزت بحسب السياقات، وإنْ أخذت على العموم نماذج الدولة القومية الديمقراطية واقتصاد السوق الليبرالي ومدونة حقوق الإنسان المترجمة في المنظومة القانونية الوطنية والدولية.
ومع أن بعض الإرهاصات الأولى لحركة تنوير عربي ظهرت بقوة في بدايات ومنتصف القرن العشرين، وامتد نشاطها لمراكز النهوض العربي المتركزة أوانها في القاهرة وبيروت، إلا أنها لم تفض إلى تشكيل ديناميكية حقيقية فاعلة على غرار التجربة الأوروبية في القرنين السابع عشر والثامن عشر.
لقد تأرجحت حركة التنوير العربي في ثلاثة اتجاهات كبرى: اتجاه وضعي متشبع بالأيديولوجيا العلموية التي أُريد لها خطأً أن تؤسس لمنظومة اعتقاد جماعي بديلة (شبلي شميل..)، واتجاه علماني دعا إلى إقصاء الدين كلياً من الشأن العمومي (سلامة موسى..)، واتجاه ليبرالي تبنى قيم الحرية السياسية بمنظورها الفردي الخاص (أحمد لطفي السيد..). إلا أن حركة التنوير العربي لم تستفد من التجربة الأوروبية في الخلفيات الفلسفية العميقة وإنما اكتفت بالأثر الأيديولوجي المباشر لهذه الحركة دون تأسيس نظري معمق.
لقد أدرك هذه الحقيقة المفكر المصري زكي نجيب محمود الذي كان أحد المبشرين الأساسيين بالفلسفات الوضعية الجديدة التي اعتبرها مقوم النهوض العربي من البوابة العلمية التقنية، قبل أن يدرك في أعماله الناضجة الإشكالات النظرية والمجتمعية المعقدة التي يطرحها السؤال التراثي على الإنسان العربي المعاصر، من حيث رهانات التأويل والقراءة والسياسات العملية، بما لا يمكن إغفاله أو السكوت عنه من منطلقات تبشيرية نضالية.
وتصدق الملاحظة نفسها على الخطاب الليبرالي الداعي للديمقراطية التعددية، وعلى الخطاب الحقوقي المنطلق من مرجعيات النزعة الإنسانية اللائكية، باعتبارهما تعاملاً مع إشكالات الواقع العربي بلغة نضالية أيديولوجية دون تأسيس فكري رصين.
وهكذا بقي مشروع التنوير العربي معلقاً، وهو اليوم مطلب موضوعي جاد وعاجل للخروج من حالة الاحتقان واليأس التي يشهدها عالمنا العربي، سواء تعلق الأمر بمطلب البناء السياسي المؤسسي العقلاني لحقل المواطنة المتساوية في إطار دولة مركزية ناجعة، أو بمطلب نشر قيم التسامح والسلم والتضامن داخل مجتمعاتنا وفي علاقاتنا بالآخر، أو بالبناء الاقتصادي التنموي الناجح على أساس الفاعلية الإبداعية الإنتاجية.
وإذا كان الرئيس الفرنسي ماكرون قد لاحظ اختلالات المشروع الأوروبي ودعا إلى حركية نهوض جديد لانتشاله من مظاهر الخلل العميقة له، مع الوفاء لمنطلقاته المرجعية الثابتة، فإن مهمة النخبة السياسية العربية أكثر تعقيداً وصعوبة، ما دام المطلوب هو العودة النقدية لحركية التنوير العربي وبعثها من كبوتها الطويلة، في سياق مغاير فقدت فيه أفكار وقيم التنوير زخمها الأصلي وتعرضت لمسار تشويه ممتد، وإنْ كانت لا تزال مشروعاً للمستقبل يتطلب عمق التصور وشجاعة الإنجاز.
كان المفكر المغربي المرحوم محمد عابد الجابري يقول لي إن الكتاب العرب الذين نشروا أدبيات التفكيك ونقد الحداثة ونظروا للعقل بوصفه سلطة قهرية وإلى الدولة على أنها جهاز للرقابة والقمع، لا يدركون حجم الخطر الذي سببوه لمجتمعات ليست لها تقاليد حداثية حقيقية، والبديل فيها عن القيم العقلانية المدنية هو الهويات العصبية والتطرف الديني.