يتحدث التاريخ كثيراً، وكذلك الإعلام في وقته، عن ثورات الشعوب، الاجتماعية والسياسية، لكن الثورة الحقيقية ذات الأثر العالمي الدائم هي ثورة العلم، ومثالها الأوضح وصول الإنسان إلى القمر منذ خمسين عاماً.
تذكَّر كثير من العرب، منذ أسبوعين تقريباً، أغنية عبدالحليم حافظ «علشانك يا قمر، أطلعلك القمر»، والتي تغنَّى بها في أواخر الخمسينيات مُدلِّلا على استعداده لعمل المعجزات، حتى غير المعقولة وغير المتصورة، لإثبات حبه وإخلاصه. لكن بعد أقل من عشر سنوات على ظهور هذه الأغنية، لم يُصبح الوصول إلى القمر معجزةً من الخيال، بل أصبح الحقيقة المعجزة.
احتفلت أميركا والعالم بأسره في يوم 20 يوليو الجاري بالذكرى الخمسين للوصول إلى القمر، أو رحلة «أبوللو» الشهيرة.
ورغم أن ذلك الإنجاز مثّل ثورة علمية حقيقية، فإنه ارتبط بالسياسة، وكان جزءاً لا يتجزأ من الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، والتي شملت أيضاً مجال الفضاء.
بدأت هذه المنافسة الفضائية علناً في أكتوبر 1957 عندما أطلق السوفييت «أسبوتنيك I»، كأول مركبة تغزو الفضاء، وبعدها بأقل من أربعة أعوام ذهب رائد الفضاء السوفييتي جاجارين إلى الفضاء وعاد بسلام. وبما أن موسكو أحرزت عدة نقاط في هذه المنافسة، كان لزاماً على واشنطن أن ترد وبأسرع وقت. وفي سنة 1962 وقف الرئيس الأميركي جون كينيدي في جامعة رايس، ليعلن عن برنامج أميركي ضخم لغزو الفضاء وإنشاء وكالة أبحاث متخصصة لهذا الغرض، هي «ناسا» التي تزايدت ميزانيتها السنوية لتصبح عشية إرسال رجل إلى القمر 60 مليار دولار (بأسعار هذه الأيام). بل يُقال إن الوصول إلى القمر عام 1969 تكَلَّفَ في الواقع 175 مليار دولار (بأسعار هذه الأيام أيضاً)!
وبعد عدة محاولات وبعض الإخفاقات (بما فيها موت ثلاثة رواد حرقاً بعد فشل صاروخهم في الانطلاق)، نجحت أبوللو11 في شق الفضاء وعلى متنها ثلاثة رجال من خيرة سلاح الطيران الأميركي. استغرقت رحلة الذهاب والعودة ثمانية أيام، بما فيها الوصول إلى القمر نفسه يوم 20 يوليو. وكلنا نتذكر الجملة الشهيرة التي تفوَّه بها رائد الفضاء أرمسترونغ عندما وطأت قدماه سطح القمر: «خطوة صغيرة من رجل، لكنها خطوة كبيرة من أجل الإنسانية». ترك رواد الفضاء جزءاً من سفينتهم وبعض أمتعتهم على القمر وعادوا ببعض الأحجار من تربته.
قد يندهش بعضنا عندما نعرف أنه على الرغم من هذا الإنجاز، فإن هناك حوالي 4% من الناس (معظمهم أميركيون) لم يصدقوا معجزة الوصول إلى القمر، وارتفع هذا العدد الآن إلى حوالي 15% يعتقدون أنها فبركة من جانب الـCIA، لكنهم يفشلون في تبرير عدم فضح هذه «الأكذوبة» من جانب موسكو، بل التنافس منذ ذلك الوقت في تقليد الإنجاز الأميركي، حتى من جانب الصين والهند.
النقاش الحقيقي هو عن الأولويات العالمية: هل الأفيد هو الاستثمار في غزو الفضاء أم معالجة مشكلات الكوكب الأرضي: المجاعات، وانتشار الأمراض، وتفاقم التلوث البيئي..؟ يُجيب المتحمسون بأن غزو القمر ما هو إلا مؤشر لتقدم الثورة العلمية في خدمة الإنسان، مثل اختراع الإنترنت وثورة الاتصالات العالمية وتقدم الطب.
وبالفعل فإنه «علشانك يا قمر» تحقق نجاح ليس فقط في تقريب الأحبة، ولكن أيضاً في تقدم الإنسانية ككل، من خلال ثورة علمية آن للعالم العربي أن يشارك في إنجازاتها الضخمة.
*أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الأميركية -القاهرة