من البديهي أن يكون السؤال الأول بعد تولي بوريس جونسون رئاسة الوزراء في بريطانيا: هل ينجح في قيادة سفينة البريكست إلى بر الأمان؟ انقسم الرأي بين فريقين أجاب أولهما بالإيجاب بحجة أن السبب في معضلة البريكست هو القيادة الضعيفة، أما وقد حظيت بريطانيا بقيادة قوية فإن الاتحاد الأوروبي سيرضخ لطلب تعديل الاتفاق، وأجاب الفريق الثاني بأن الفشل سوف يكون نصيب جونسون لأن المعضلة أعقد بكثير من شخص رئيس الوزراء.
والواقع أن المرء يعجب لطريقة تفكير الفريق الأول، فموقف الاتحاد الأوروبي منذ بداية الأزمة شديد الوضوح، وهو أن الاتفاق الذي أنجزه مع ماي يعبر عن موقفه النهائي، وهو أمر منطقي لأن خروج عضو بوزن بريطانيا من الاتحاد ليس بالأمر الهين، ومن شأن التساهل فيه أن يشجع المزيد من النزعات الانفصالية، خاصة في ظل صعود اليمين المتشدد في عدد متزايد من أعضاء الاتحاد، وبالتالي فإن إظهار جونسون «العين الحمراء» لأوروبا لن يُقدم أو يؤخر. ويلاحظ أن التصريحات الأوروبية لم تُشر بحرف إلى إمكان تغيير الاتفاق وإنما مساعدة جونسون على تمريره، وهو المستحيل بعينه لأنه رُفض ثلاث مرات في مجلس العموم.
يعني ما سبق أن «المطرقة» الأوروبية كفيلة بعدم إعطاء جونسون أي تنازل جديد، ومن هنا يصبح خياره الوحيد هو الخروج دون اتفاق. وبغض النظر عن التداعيات الكارثية لهذا الخيار فإنه ليس بيده، فقد وافق مجلس العموم البريطاني في أبريل الماضي على اقتراح يمنع الخروج دون اتفاق، وهو ما يظهر مدى تعقد معضلة البريكست، فالاتفاق الوحيد المتاح أوروبياً هو ذلك الذي توصلت إليه ماي ورفضه مجلس العموم ثلاث مرات، وبالتأكيد لن تكون هناك أغلبية كافية لدى جونسون لتمرير الخروج دون اتفاق، خاصة بعد أن تفاقم الانقسام داخل حزب المحافظين بعد تولي جونسون رئاسة الوزراء، بل ذكرت آخر الأخبار قبيل كتابة هذه المقالة أن ثمة اتصالات جرت بين جيرمي هنت، منافس جونسون على رئاسة الوزراء وزعيم حزب العمال للتنسيق ضد خيار الخروج دون اتفاق. ويُضاف إلى هذا الموقف الاسكتلندي الرافض للخروج من الاتحاد الأوروبي أصلاً والتلميح إلى إمكان إجراء استفتاء ثانٍ على الانفصال عن المملكة المتحدة، وكذلك الموقف الأيرلندي الشمالي المعارض لفكرة عودة الحدود الجمركية بين شطري أيرلندا، أي أن معضلة البريكست عادت لتهدد مجدداً تماسك المملكة المتحدة.
ويعني ما سبق أن الخيار الوحيد المتاح أمام جونسون طالما أنه يعارض اتفاق ماي ولا يستطيع الحصول على اتفاق أفضل منه، ولا تمرير الخروج دون اتفاق، هو الدعوة لانتخابات جديدة. وقد بدأت ترشح بالفعل تقارير تشير إلى أن حكومة جونسون تعمل في هذا الاتجاه، وهو ما يفضي إلى بعد آخر من أبعاد أزمة البريكست يتجاوز جونسون وحزب المحافظين بكثير.
فمن الواضح أن مشكلة بريطانيا الحقيقية مع البريكست هي أنها منقسمة انقساماً حقيقياً بين أنصار البريكست وخصومه. ولا ننسى أن خيار البريكست مر في الاستفتاء بأغلبية ضئيلة (52%) وأن عملية الاستفتاء قد انتُقِدَت لأنها كانت محاطة بمبالغات شارك جونسون نفسه في ترويجها، كالقول بأن البريكست سيوفر لمنظومة الصحة البريطانية 350 مليون جنيه إسترليني أسبوعياً، وشبهات تدخل شركة «كامبريدج أناليتيكا» ورئيسها اليميني المتطرف ستيف بانون، المستشار السابق لترامب، في توجيه الناخبين لخيار الانفصال. ولا أحد يستطيع الآن الجزم بخيارات الناخب البريطاني حال إجراء انتخابات برلمانية مبكرة، لكن ثمة مؤشرات تساعدنا في إدراك مدى تعقد المشكلة، ومنها مثلاً أن حزب المحافظين لا يتمتع حالياً بأغلبية برلمانية، وأن الانتخابات البلدية في أبريل الماضي أفقدته قرابة 500 مقعد لم يستطع حزب العمال الاستفادة منها لأنه خسر بدوره 70 مقعداً، أي أن الرأي العام البريطاني قال للحزبين الرئيسين في تلك الانتخابات، وفقاً لأحد المراقبين، «تباً لكما»، فهل يكرر الرسالة في الانتخابات القادمة؟ هذا مع العلم بأن الأحزاب الجديدة والصغيرة هي التي استفادت من تلك الانتخابات، ما يعني أن ثمة سيناريو مفزعاً، وهو أن تفضي الانتخابات إلى مزيد من الانقسام والتشظي، وساعتها سيكون المعنى الوحيد هو أن معضلة البريكست ما زالت قائمة, وأن الطريق سيبقى مفتوحاً لكل الاحتمالات.
*أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة