اشتعلت المواقع في الأيام الأخيرة بتصريحات الرئيس الأميركي ترامب ضد النائبات الأربع من الحزب الديمقراطي، وقد دعاهنّ فيها للعودة إلى ديارهنّ. والنائبات من أصول مختلفةٍ «غير بيضاء»، وثلاثٌ منهنّ مولودات بالولايات المتحدة، والرابعة من أصل صومالي. ورغم ثوران وسائل الإعلام الأميركية، وكذلك الحزب الديمقراطي (وهنّ نائباتٌ فيه)، فإنّ الأمر ليس جديداً على الأميركيين. فقد ظلَّ ملايين السود الذين اقتيد أجدادهم قبل مئات السنين رقيقاً للعمل في مزارع البيض، يعانون من التمييز حتى أواخر الستينيات من القرن العشرين، كما أنهم ما تحرروا من عبوديتهم إلاّ في الثلث الأخير من القرن الثامن عشر. والذين يستغربون ويستنكرون كلام الرئيس الأميركي الآن، يعلمون أنّ منطقه هذا كان سبباً رئيسياً في فوزه بالرئاسة. وهو في نقده للمكسيك المجاورة، ومحاولته بناء سورٍ بينها وبين بلاده بطول مئات الكيلومترات إنما يريد منع المهاجرين غير الشرعيين (الغرباء كما يقول)، من دخول الولايات المتحدة، والذين بلغ عددهم أحد عشر مليوناً!
يحفل العالم اليوم بعشرات الظواهر المتفرقة التي يحاول الباحثون إعطاءَها عنواناً أو جَمعها تحته، وهو: الهوية. وإذا كان اللون رمزاً لذلك لدى ترامب، فإنه يصبح الأصل الإثني لدى سياسيي اليمين في أوروبا. وقد سيطرت أحزابٌ يمينيةٌ على الحكم في عدة دولٍ أوروبيةٍ، بالشعارات التي حملتها ضد «المهاجرين». والنجاح الذي يحققونه لا يحدث في دولٍ مثل هنغاريا وبولندا فقط، بل يحدث أيضاً في دولٍ اسكندنافية عريقة في ديمقراطيتها واستقبالها للمهاجرين، وحتى في بريطانيا. ولا ينبغي أن ننسى أنّ المستشارة الألمانية ميركل إنما تزعزعت زعامتها لأنها استقبلت أكثر من مليون لاجئ سوري، بل ويوشك الاتحاد الأوروبي أن يتصدّع تحت وطأة مشكلة اللجوء واللاجئين، وبغض النظر عن ألوانهم وأصولهم، فالمهم أنهم غرباء وليسوا أُصلاء.
وفي كل مرةٍ تظهر فيها مشكلة الأصيل والدخيل، تكون لذلك ظلالٌ دينية، وبخاصةٍ في آسيا وأوروبا. فالبورميون في محاولتهم إبادة الروهينغا، يركّزون على إسلامهم، أو يعتبرونه الشاهدَ على «غربتهم» واختلافهم عن دين الأكثرية البوذية في البلاد. ويبدو الأمر أصعب لدى «مودي» رئيس وزراء الهند، والذي اكتسح حزبُه اليميني الانتخابات الأخيرة، رغم أن المسلمين هناك يبلغ عددهم أكثر من مائة وخمسين مليوناً هم هنودٌ خُلَّص إثنياً وجينياً، لكنهم ليسوا هندوساً بل مسلمون!
وفي أوروبا أراد البعض تخفيف الوقْع فتحدثوا عن «الإسلاموفوبيا» الناجمة عن أحداث العنف التي اقترفها شبانٌ مسلمون، من الجيل الثالث هجرةً واستقراراً في بلدان القارة العجوز.
إنّ هذا الداء الهائل، داء الهوية الصافية أو التي تريد أن تكونَ صافية، عرفناه أولَ ما عرفناه في منطقتنا في استعمار الصهاينة لفلسطين. وكان استعماراً استيطانياً، وصار في العقود الأخيرة إحلالياً واستبدالياً. فالمستوطنون بالأيديولوجيات الجديدة الدينية بالذات، يريدون أن تكون إسرائيل دولةً يهودية خالصة. وبذلك يصبح الفلسطينيون في الحدود الأولى للكيان الغاصب ليسوا مواطنين كاملين، لأنهم ليسوا يهوداً. ولأنّ مطامح ومطامع الاستيلاء تتنامى، فإنّ نتنياهو قال أخيراً إنه شخصياً يريد ضمّ المستوطنات بالضفة ومن حول القدس إلى إسرائيل. والمستوطنات تتنامى، فأين يذهب الفلسطينيون الذين تُضمُّ أراضيهم ومزارعهم إلى «الدولة اليهودية»؟! لقد قام سفراء من دول الاتحاد الأوروبي أخيراً بالاجتماع من حول مساكن الفلسطينيين التي يراد هدمُها لتُضمَّ إلى المستوطنات، بعد أحكامٍ أصدرتها المحكمة العليا ضد السكان الذين لجأوا إليها لإنصافهم!
ولماذا نذهب بعيداً؟ منذ حوالى العامين يشغلنا وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل بالهجمات على النازحين السوريين «الأجانب والغرباء» كما يقول. بل تحدث عن الاختلاف الإثني والجيني بينه وبينهم!
وأخيراً فإنّ وزير العمل اللبناني، اكتشف أخيراً وجود قانون يمنع الفلسطينيين من ممارسة معظم المِهَن على الأرض اللبنانية المقدسة، فأقفل محلاتهم وأعمالهم القائمة من عشرات السنين. وأوصل رسائل إلى المدارس الخاصة تمنعهم من ممارسة التعليم فيها. باسيل تعلّل بالجينات، وأبو سليمان بالقانون، أما حاكم المصرف المركزي فقال إنّ أقارب اللاجئين الفلسطينيين يرسلون إليهم من الخارج ملياري دولار سنوياً، فينبغي السماح لهم بالتملك والعمل!
فوكوياما، المفكر اليميني المعروف، قال في كتابه عن «الهوية» الصادر عام 2017 إنّ الهويات وهم، لكنه وهمٌ قاتل. بيد أنّ هذا «الاعتراف» لا يفيد بشيء، ما دام ينتج التمييز والتهجير والقتل!
*أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية -بيروت
يحفل العالم اليوم بعشرات الظواهر المتفرقة التي يحاول الباحثون إعطاءَها عنواناً أو جَمعها تحته، وهو: الهوية. وإذا كان اللون رمزاً لذلك لدى ترامب، فإنه يصبح الأصل الإثني لدى سياسيي اليمين في أوروبا. وقد سيطرت أحزابٌ يمينيةٌ على الحكم في عدة دولٍ أوروبيةٍ، بالشعارات التي حملتها ضد «المهاجرين». والنجاح الذي يحققونه لا يحدث في دولٍ مثل هنغاريا وبولندا فقط، بل يحدث أيضاً في دولٍ اسكندنافية عريقة في ديمقراطيتها واستقبالها للمهاجرين، وحتى في بريطانيا. ولا ينبغي أن ننسى أنّ المستشارة الألمانية ميركل إنما تزعزعت زعامتها لأنها استقبلت أكثر من مليون لاجئ سوري، بل ويوشك الاتحاد الأوروبي أن يتصدّع تحت وطأة مشكلة اللجوء واللاجئين، وبغض النظر عن ألوانهم وأصولهم، فالمهم أنهم غرباء وليسوا أُصلاء.
وفي كل مرةٍ تظهر فيها مشكلة الأصيل والدخيل، تكون لذلك ظلالٌ دينية، وبخاصةٍ في آسيا وأوروبا. فالبورميون في محاولتهم إبادة الروهينغا، يركّزون على إسلامهم، أو يعتبرونه الشاهدَ على «غربتهم» واختلافهم عن دين الأكثرية البوذية في البلاد. ويبدو الأمر أصعب لدى «مودي» رئيس وزراء الهند، والذي اكتسح حزبُه اليميني الانتخابات الأخيرة، رغم أن المسلمين هناك يبلغ عددهم أكثر من مائة وخمسين مليوناً هم هنودٌ خُلَّص إثنياً وجينياً، لكنهم ليسوا هندوساً بل مسلمون!
وفي أوروبا أراد البعض تخفيف الوقْع فتحدثوا عن «الإسلاموفوبيا» الناجمة عن أحداث العنف التي اقترفها شبانٌ مسلمون، من الجيل الثالث هجرةً واستقراراً في بلدان القارة العجوز.
إنّ هذا الداء الهائل، داء الهوية الصافية أو التي تريد أن تكونَ صافية، عرفناه أولَ ما عرفناه في منطقتنا في استعمار الصهاينة لفلسطين. وكان استعماراً استيطانياً، وصار في العقود الأخيرة إحلالياً واستبدالياً. فالمستوطنون بالأيديولوجيات الجديدة الدينية بالذات، يريدون أن تكون إسرائيل دولةً يهودية خالصة. وبذلك يصبح الفلسطينيون في الحدود الأولى للكيان الغاصب ليسوا مواطنين كاملين، لأنهم ليسوا يهوداً. ولأنّ مطامح ومطامع الاستيلاء تتنامى، فإنّ نتنياهو قال أخيراً إنه شخصياً يريد ضمّ المستوطنات بالضفة ومن حول القدس إلى إسرائيل. والمستوطنات تتنامى، فأين يذهب الفلسطينيون الذين تُضمُّ أراضيهم ومزارعهم إلى «الدولة اليهودية»؟! لقد قام سفراء من دول الاتحاد الأوروبي أخيراً بالاجتماع من حول مساكن الفلسطينيين التي يراد هدمُها لتُضمَّ إلى المستوطنات، بعد أحكامٍ أصدرتها المحكمة العليا ضد السكان الذين لجأوا إليها لإنصافهم!
ولماذا نذهب بعيداً؟ منذ حوالى العامين يشغلنا وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل بالهجمات على النازحين السوريين «الأجانب والغرباء» كما يقول. بل تحدث عن الاختلاف الإثني والجيني بينه وبينهم!
وأخيراً فإنّ وزير العمل اللبناني، اكتشف أخيراً وجود قانون يمنع الفلسطينيين من ممارسة معظم المِهَن على الأرض اللبنانية المقدسة، فأقفل محلاتهم وأعمالهم القائمة من عشرات السنين. وأوصل رسائل إلى المدارس الخاصة تمنعهم من ممارسة التعليم فيها. باسيل تعلّل بالجينات، وأبو سليمان بالقانون، أما حاكم المصرف المركزي فقال إنّ أقارب اللاجئين الفلسطينيين يرسلون إليهم من الخارج ملياري دولار سنوياً، فينبغي السماح لهم بالتملك والعمل!
فوكوياما، المفكر اليميني المعروف، قال في كتابه عن «الهوية» الصادر عام 2017 إنّ الهويات وهم، لكنه وهمٌ قاتل. بيد أنّ هذا «الاعتراف» لا يفيد بشيء، ما دام ينتج التمييز والتهجير والقتل!
*أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية -بيروت