يهرب الإعلاميون الأميركيون، الذين انخرطوا في معركة ساخنة ضد الرئيس دونالد ترامب، من واقع يشي بأنهم تأخروا في مراجعة أدائهم في هذه المعركة، رغم مرور نحو ثلاث سنوات على إطلاقها. بدأت تلك المعركة فور تحقيق ترامب مفاجأته الأولى، وفوزه في يوليو 2016 بترشيح الحزب الجمهوري للانتخابات الرئاسية التي أُجريت في نوفمبر من العام نفسه. وتصاعدت الحملات الإعلامية ضده بعد تحقيقه المفاجأة الثانية، وفوزه على منافسته هيلاري كلينتون، رغم وقوف كثير من وسائل الإعلام الأميركية وراءها.
لم تكف ثلاث سنوات لكي يدركوا أن ترامب ربح المعركة، ويقروا بواقع مازال إنكاره مستمراً. وليس الكتاب الذي أصدره مراسل شبكة «سي. إن. إن» لدى البيت الأبيض «جيم أكوستا» قبل أيام، إلا مؤشراً جديداً للإصرار على هذا الإنكار.
نال «أكوستا» شهرة واسعة عندما دخل في مشادة حادة مع ترامب خلال مؤتمر صحفي في البيت الأبيض في نوفمبر الماضي. وتابع كُثُرٌ في العالم قرار منعه من دخول البيت الأبيض إثر تلك المشادة، ثم عودته إليه بموجب حكم قضائي حصل عليه.
محتوى كتاب أكوستا يُعرف من عنوانه:
Enemy of the people – A dangerous time to tell the truth in America.
فقد وصفه ترامب، في لحظة غضب، بأنه «عدو الشعب»، واستثمر هو هذا الوصف لتوجيه رسالة مفادها أن الرئيس الأميركي لا يختلف عن أي ديكتاتور يتهم الإعلاميين الذين ينقدونه بالعمل ضد وطنهم، الأمر الذي يجعلهم في خطر حين يقولون الحقيقة.
ويعرض الكتاب صورة بالغة السوء للرئيس الأميركي، مثلما تفعل وسائل الإعلام التي تهاجمه منذ ثلاث سنوات، من دون التفكير في مدى مطابقة هذه الصورة للواقع، ونوع التأثير الذي تُحدثه في الرأي العام. ولا يجيب أكوستا، مثل غيره من الإعلاميين الذين يشاركونه موقفه، عن أسئلة لا بد أن غير قليل من الأميركيين يسألونها. وأبسط هذه الأسئلة هو: كيف يكون قول الحقيقة خطراً على إعلامي يواصل نقل ما يعتقد أنها حقائق من دون عوائق؟ لم يستطع الرئيس منعه من قول كل ما شاء حتى عندما أغلق باب البيت الأبيض أمامه. كما لم يتمكن من إبعاده لأكثر من أسبوع، إذ سرعان ما قبل القضاء شكلاً دعوى ألزمت ترامب بإعادته، إلى أن ينظر في موضوعها تفصيلاً.
وفي كل ذلك، وغيره، لم يتعرض أكوستا لأي خطر. فكيف يمكنه إقناع قارئ كتابه بأن قول الحقيقة صار خطراً في أميركا اليوم؟ وهل يمكن تصور أن يؤثر هذا الكتاب في قُرَّاء لم يتأثروا بحملات واسعة ضد ترامب طيلة ثلاث سنوات؟
يعيدنا هذا السؤال إلى ما بدأنا به، ويثير السؤال الأساسي في هذا الموضوع، وهو: لماذا تخسر وسائل إعلام، بعضها كبير وواسع الانتشار، معركتها ضد ترامب، رغم أنها تصل إلى معظم الأميركيين؟ من لا يقرؤون الصحف الأوسع انتشار، مثل «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست»، يشاهدون قنوات تليفزيونية يتابع بعضها العالم كله.
والمقصود بخسارة الإعلام، هنا تحديداً، أنه لم يتمكن من ترويح الصورة السلبية التي يرسمها لترامب منذ ثلاث سنوات، لأن شعبيته اليوم أكثر قليلاً مما كانت عليه في بداية تلك المعركة. ولا يعني هذا، أن سياسة ترامب صائبة، أو أن أداءه يخلو من أخطاء هنا وهناك، ولذا لا يفيد تقييم سياسة ترامب وأدائه في تفسير خسارة الإعلام هذه المعركة. لكن تقييم أداء هذا الإعلام يمكن أن يكون أكثر فائدة في تفسير خسارته. وآية ذلك أن الإعلام يفقد نفسه، ويُضعف دوره، عندما يتخلى عن المهنية، ويتحول لاعباً سياسياً. وفي هذه الحالة، يفقد قدرته على الإقناع، ولا تكون رسائله مقبولة إلا في أوساط المقتنعين بها أصلاً. وهذا يُفسر لماذا فقد الإعلام الذي يهاجم ترامب القدرة على التأثير ليس في أنصار الرئيس الأميركي فقط، بل في المحايدين تجاهه أيضاً.
لقد خسر الإعلام الأميركي الذي يهاجم ترامب معركته، لأنه تحول من وسيط إلى طرف انغمس حتى النخاع في صراع سياسي مباشر، ووضع نفسه في موقع مضاد لمن أراد أن يؤثر في موقفهم، فانصرفوا عنه. ولم يكن لأداء الرئيس الأميركي أثر في نتيجة هذه المعركة، التي كان ممكناً أن يخسرها في حال وجود إعلام ينقد هذا الأداء على أسس مهنية، وليس انطلاقاً من مواقف سياسية تجاوزت الخلاف إلى العداء.
*مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية
لم تكف ثلاث سنوات لكي يدركوا أن ترامب ربح المعركة، ويقروا بواقع مازال إنكاره مستمراً. وليس الكتاب الذي أصدره مراسل شبكة «سي. إن. إن» لدى البيت الأبيض «جيم أكوستا» قبل أيام، إلا مؤشراً جديداً للإصرار على هذا الإنكار.
نال «أكوستا» شهرة واسعة عندما دخل في مشادة حادة مع ترامب خلال مؤتمر صحفي في البيت الأبيض في نوفمبر الماضي. وتابع كُثُرٌ في العالم قرار منعه من دخول البيت الأبيض إثر تلك المشادة، ثم عودته إليه بموجب حكم قضائي حصل عليه.
محتوى كتاب أكوستا يُعرف من عنوانه:
Enemy of the people – A dangerous time to tell the truth in America.
فقد وصفه ترامب، في لحظة غضب، بأنه «عدو الشعب»، واستثمر هو هذا الوصف لتوجيه رسالة مفادها أن الرئيس الأميركي لا يختلف عن أي ديكتاتور يتهم الإعلاميين الذين ينقدونه بالعمل ضد وطنهم، الأمر الذي يجعلهم في خطر حين يقولون الحقيقة.
ويعرض الكتاب صورة بالغة السوء للرئيس الأميركي، مثلما تفعل وسائل الإعلام التي تهاجمه منذ ثلاث سنوات، من دون التفكير في مدى مطابقة هذه الصورة للواقع، ونوع التأثير الذي تُحدثه في الرأي العام. ولا يجيب أكوستا، مثل غيره من الإعلاميين الذين يشاركونه موقفه، عن أسئلة لا بد أن غير قليل من الأميركيين يسألونها. وأبسط هذه الأسئلة هو: كيف يكون قول الحقيقة خطراً على إعلامي يواصل نقل ما يعتقد أنها حقائق من دون عوائق؟ لم يستطع الرئيس منعه من قول كل ما شاء حتى عندما أغلق باب البيت الأبيض أمامه. كما لم يتمكن من إبعاده لأكثر من أسبوع، إذ سرعان ما قبل القضاء شكلاً دعوى ألزمت ترامب بإعادته، إلى أن ينظر في موضوعها تفصيلاً.
وفي كل ذلك، وغيره، لم يتعرض أكوستا لأي خطر. فكيف يمكنه إقناع قارئ كتابه بأن قول الحقيقة صار خطراً في أميركا اليوم؟ وهل يمكن تصور أن يؤثر هذا الكتاب في قُرَّاء لم يتأثروا بحملات واسعة ضد ترامب طيلة ثلاث سنوات؟
يعيدنا هذا السؤال إلى ما بدأنا به، ويثير السؤال الأساسي في هذا الموضوع، وهو: لماذا تخسر وسائل إعلام، بعضها كبير وواسع الانتشار، معركتها ضد ترامب، رغم أنها تصل إلى معظم الأميركيين؟ من لا يقرؤون الصحف الأوسع انتشار، مثل «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست»، يشاهدون قنوات تليفزيونية يتابع بعضها العالم كله.
والمقصود بخسارة الإعلام، هنا تحديداً، أنه لم يتمكن من ترويح الصورة السلبية التي يرسمها لترامب منذ ثلاث سنوات، لأن شعبيته اليوم أكثر قليلاً مما كانت عليه في بداية تلك المعركة. ولا يعني هذا، أن سياسة ترامب صائبة، أو أن أداءه يخلو من أخطاء هنا وهناك، ولذا لا يفيد تقييم سياسة ترامب وأدائه في تفسير خسارة الإعلام هذه المعركة. لكن تقييم أداء هذا الإعلام يمكن أن يكون أكثر فائدة في تفسير خسارته. وآية ذلك أن الإعلام يفقد نفسه، ويُضعف دوره، عندما يتخلى عن المهنية، ويتحول لاعباً سياسياً. وفي هذه الحالة، يفقد قدرته على الإقناع، ولا تكون رسائله مقبولة إلا في أوساط المقتنعين بها أصلاً. وهذا يُفسر لماذا فقد الإعلام الذي يهاجم ترامب القدرة على التأثير ليس في أنصار الرئيس الأميركي فقط، بل في المحايدين تجاهه أيضاً.
لقد خسر الإعلام الأميركي الذي يهاجم ترامب معركته، لأنه تحول من وسيط إلى طرف انغمس حتى النخاع في صراع سياسي مباشر، ووضع نفسه في موقع مضاد لمن أراد أن يؤثر في موقفهم، فانصرفوا عنه. ولم يكن لأداء الرئيس الأميركي أثر في نتيجة هذه المعركة، التي كان ممكناً أن يخسرها في حال وجود إعلام ينقد هذا الأداء على أسس مهنية، وليس انطلاقاً من مواقف سياسية تجاوزت الخلاف إلى العداء.
*مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية