إذا كنتَ غير متابع بانتظام للمسرح السياسي الداخلي في الولايات المتحدة الأميركية، ثم حطت بك الطائرة هناك، فقد تعتقد أن الانتخابات الرئاسية الأميركية موعدها الشهر القادم! والواقع أنه إذا ما كان هناك رئيس جديد منتخب، فلن يصل إلى البيت الأبيض إلا في يناير 2021، أما التصويت نفسه ففي نوفمبر 2020، أي بعد 16 شهراً من الآن! ومع ذلك فقد بدأت المناظرات التليفزيونية بين 20 من أقطاب الحزب الديمقراطي، الساعين للفوز بترشيح حزبهم، لمنافسة الرئيس الحالي ترامب، والذي سيكون مرشح الحزب الجمهوري.
وهناك لغز كبير فيما يتعلق بترامب؛ فالرأي السائد يشير إلى أنه أكثر الرؤساء الأميركيين إثارة للجدل والانتقاد، وخاصة من جانب الإعلام الأميركي الرئيسي، مثل قنوات CNN و ABC و NBC، وكذلك صحيفتي «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست».
بعض كبار الدبلوماسيين، الأميركيين والأجانب، يُشاطرون الإعلام رأيه السلبي حول ترامب. ومؤخراً تم تسريب تقييم للسفير البريطاني في واشنطن موجه لحكومة بلاده، يقول فيه إن البيت الأبيض، تحت إدارة ترامب، يتسم بالفوضى وعدم الكفاءة، وإن الرئيس نفسه جزء من هذه الحالة، وهو ما ذهبت إليه أيضاً بعض الكتب ذات الصلة، لكن أهمية هذا الرأي كونه يأتي من ممثل لدولة كبرى ظلت لها «علاقة خاصة» بواشنطن على مر التاريخ.
التحقيق الآن على قدم وساق لمعرفة كيفية تسريب هذه الوثيقة السرية جداً، ورغم أن السفير لم يتراجع عن تقييمه، كما لم تتبرأ منه لندن، فقد اضطر للاستقالة من منصبه حفاظاً على العلاقة بين البلدين.
ومع ذلك، لا يزال ترامب يحتفظ بشعبيته، بل ازدادت أخيراً لترتفع من 37% إلى 44%، فما السبب وراء ذلك؟
هناك عدة أسباب لنجاح ترامب:
1- ضعف المعارضة الديمقراطية، والتي لم تستطع إلى الآن التواصل مع القاعدة الشعبية للبيض والمسيحيين الأرثوذوكس، وهي أساس التأييد لترامب وسياساته. كما أن عدم قدرة الديمقراطيين على إثبات اتهاماتهم لحملة ترامب الانتخابية بالتواطؤ مع روسيا، أصابت مصداقيتهم وجعلت ترامب بالنسبة لمؤيديه مظلوماً، بل حتى شهيداً.
2- جاذبية شعار «أميركا عظيمة والأولى دائماً» للعامة قليلي التعليم والثقافة، وخاصة عندما يرتبط هذا بإيقاف المدفوعات لحلفاء أميركا في أوروبا واليابان لحمايتهم، بل على العكس بانهمار الأموال على الخزائن الأميركية لشراء السلاح أو للاستثمار، كما فعلت قطر الأسبوع الماضي خلال زيارة أميرها لواشنطن واجتماعه مع ترامب.
3- الشعبوية، أي مخاطبة غرائز العامة وقليلي التعليم، هي أساس القاعدة العريضة لتأييد ترامب، خاصة عندما ترتبط بمقاومة الهجرة بكل أنواعها والتشكك حيال غير البيض. فمثلاً هاجم ترامب في تغريدة له، مؤخراً، بعض عضوات الكونجرس من غير البيض، أو من الأقلية الإسبانية، وطالبهن بـ«العودة إلى بلادهم الأصلية التي تعج بالجريمة، لإصلاحها». لكن ثلاثاً من العضوات الأربع اللاتي هاجمهن هن في الواقع مولودات في الولايات المتحدة، وبذلك تتأجج نار الانقسام التي تهز المجتمع الأميركي بدلاً من تشجيع الجميع على الوحدة والتآلف، مهما كان لون بشرتهم أو معتقداتهم السياسية.
وربما ينتفض الحزب الديمقراطي ضد سياسة الرئيس هذه، ليؤكد القيم الأساسية للمجتمع الأميركي والتي هي عامل قوته، وقد جعلته مجتمع المهاجرين المفتوح منذ نشأة الولايات المتحدة. وبالفعل فقد بدأ جون بايدن، نائب الرئيس الأميركي السابق، وأحد أهم المرشحين حالياً لخوض الانتخابات الرئاسية، يركز على «مثالب» سياسة ترامب الخارجية، والتي يَعتقد أنها تجعل أميركا «وحيدة»، ليس بمعنى العظمة، بل بمعنى العزلة، جرّاء منازعة الجميع حتى داخل حلف الأطلسي.
وبالنسبة لنا في المنطقة العربية، فالمبدأ الصحيح هو أن ترامب لا يمكن ضمانه تماماً أو توقع مواقفه وقراراته بشكل كامل، لذا فالأفضل للسياسة الخارجية العربية أن تتجنب وضع البيض كله في سلة واحدة، وأن تعمد بدلاً من ذلك إلى تنويع خياراتها والتواصل مع أوروبا وروسيا وآسيا، واعتماد مبدأ المبادرة وعدم الاقتصار على رد الفعل.
*أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الأميركية -القاهرة
وهناك لغز كبير فيما يتعلق بترامب؛ فالرأي السائد يشير إلى أنه أكثر الرؤساء الأميركيين إثارة للجدل والانتقاد، وخاصة من جانب الإعلام الأميركي الرئيسي، مثل قنوات CNN و ABC و NBC، وكذلك صحيفتي «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست».
بعض كبار الدبلوماسيين، الأميركيين والأجانب، يُشاطرون الإعلام رأيه السلبي حول ترامب. ومؤخراً تم تسريب تقييم للسفير البريطاني في واشنطن موجه لحكومة بلاده، يقول فيه إن البيت الأبيض، تحت إدارة ترامب، يتسم بالفوضى وعدم الكفاءة، وإن الرئيس نفسه جزء من هذه الحالة، وهو ما ذهبت إليه أيضاً بعض الكتب ذات الصلة، لكن أهمية هذا الرأي كونه يأتي من ممثل لدولة كبرى ظلت لها «علاقة خاصة» بواشنطن على مر التاريخ.
التحقيق الآن على قدم وساق لمعرفة كيفية تسريب هذه الوثيقة السرية جداً، ورغم أن السفير لم يتراجع عن تقييمه، كما لم تتبرأ منه لندن، فقد اضطر للاستقالة من منصبه حفاظاً على العلاقة بين البلدين.
ومع ذلك، لا يزال ترامب يحتفظ بشعبيته، بل ازدادت أخيراً لترتفع من 37% إلى 44%، فما السبب وراء ذلك؟
هناك عدة أسباب لنجاح ترامب:
1- ضعف المعارضة الديمقراطية، والتي لم تستطع إلى الآن التواصل مع القاعدة الشعبية للبيض والمسيحيين الأرثوذوكس، وهي أساس التأييد لترامب وسياساته. كما أن عدم قدرة الديمقراطيين على إثبات اتهاماتهم لحملة ترامب الانتخابية بالتواطؤ مع روسيا، أصابت مصداقيتهم وجعلت ترامب بالنسبة لمؤيديه مظلوماً، بل حتى شهيداً.
2- جاذبية شعار «أميركا عظيمة والأولى دائماً» للعامة قليلي التعليم والثقافة، وخاصة عندما يرتبط هذا بإيقاف المدفوعات لحلفاء أميركا في أوروبا واليابان لحمايتهم، بل على العكس بانهمار الأموال على الخزائن الأميركية لشراء السلاح أو للاستثمار، كما فعلت قطر الأسبوع الماضي خلال زيارة أميرها لواشنطن واجتماعه مع ترامب.
3- الشعبوية، أي مخاطبة غرائز العامة وقليلي التعليم، هي أساس القاعدة العريضة لتأييد ترامب، خاصة عندما ترتبط بمقاومة الهجرة بكل أنواعها والتشكك حيال غير البيض. فمثلاً هاجم ترامب في تغريدة له، مؤخراً، بعض عضوات الكونجرس من غير البيض، أو من الأقلية الإسبانية، وطالبهن بـ«العودة إلى بلادهم الأصلية التي تعج بالجريمة، لإصلاحها». لكن ثلاثاً من العضوات الأربع اللاتي هاجمهن هن في الواقع مولودات في الولايات المتحدة، وبذلك تتأجج نار الانقسام التي تهز المجتمع الأميركي بدلاً من تشجيع الجميع على الوحدة والتآلف، مهما كان لون بشرتهم أو معتقداتهم السياسية.
وربما ينتفض الحزب الديمقراطي ضد سياسة الرئيس هذه، ليؤكد القيم الأساسية للمجتمع الأميركي والتي هي عامل قوته، وقد جعلته مجتمع المهاجرين المفتوح منذ نشأة الولايات المتحدة. وبالفعل فقد بدأ جون بايدن، نائب الرئيس الأميركي السابق، وأحد أهم المرشحين حالياً لخوض الانتخابات الرئاسية، يركز على «مثالب» سياسة ترامب الخارجية، والتي يَعتقد أنها تجعل أميركا «وحيدة»، ليس بمعنى العظمة، بل بمعنى العزلة، جرّاء منازعة الجميع حتى داخل حلف الأطلسي.
وبالنسبة لنا في المنطقة العربية، فالمبدأ الصحيح هو أن ترامب لا يمكن ضمانه تماماً أو توقع مواقفه وقراراته بشكل كامل، لذا فالأفضل للسياسة الخارجية العربية أن تتجنب وضع البيض كله في سلة واحدة، وأن تعمد بدلاً من ذلك إلى تنويع خياراتها والتواصل مع أوروبا وروسيا وآسيا، واعتماد مبدأ المبادرة وعدم الاقتصار على رد الفعل.
*أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الأميركية -القاهرة