هزيمة اسطنبول أكبر انتكاسة انتخابية في مشوار أردوغان السياسي وأول هزيمة كبيرة لنسخته من الشعبوية، وأول بشاير التغيير في السياسة التركية.
هل ضرب «أكرم إمام أوغلو» مثلاً للعالم في كيفية إلحاق الهزيمة بالشعبوية؟ بالنسبة لليبراليين في كل مكان، كان انتصار رئيس بلدية اسطنبول الساحق بمثابة تألق ضياء نجم في سماء عقد مظلم، تلمسوا فيها طريقاً للوصول إلى استراتيجية تنتصر على السياسات الشعبوية. وفوز إمام أوغلو يمثل ضربة قوية للرئيس رجب طيب أردوغان الذي يحظى بإعجاب الشعبويين على امتداد العالم لسيطرته على السياسة التركية. فإذا كان من الممكن زرع شوكة في عرين أردوغان، أي في اسطنبول التي لفت فيها انتباه البلاد حين أصبح رئيس بلديتها، لربما، هناك أمل لدى الطامحين بإلحاق الهزيمة بالشعبويين، لنقل مثلاً في الولايات المتحدة العام المقبل.
لكن هناك بعض الاحترازات المهمة. فربما تكون اسطنبول أولى بشائر التغيير في السياسة التركية، لكن المدينة ليست نموذجاً مصغراً لباقي المناطق التي تحكم فيها الشعبوية. فبعض الظروف التي حقق فيها إمام أوغلو انتصاره فريدة من نوعها. فتركيا تمر بأزمة اقتصادية حادة، وكثيرون من سكان اسطنبول انتهزوا فرصة الانتخابات للتعبير عن استيائهم من التضخم والبطالة المرتفعين. وليس من المرجح أن يكون الحال كذلك في الانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر 2020. ولا يستطيع الليبراليون في مناطق أخرى توقع أن يقع خصومهم الشعبويون في أخطاء مثل التي وقع فيها أردوغان. فبعد أن انتزع «إمام أوغلو» انتصاراً بفارق ضئيل في السباق على رئاسة بلدية اسطنبول في مارس الماضي، أصر الرئيس التركي على أن هناك مخالفات في عملية التصويت وطالب بإعادتها. وهذا وحد- فعلياً- المعارضة التركية الشهيرة بشدة خصامها حول إمام أوغلو مما جعله أكثر قوة بكثير.
لكن إمام أوغلو يستحق أن يُنسب إليه الفضل في صناعة جانب كبير من حظه السعيد. فقد تجنب الوقوع في هفوات، وخاض حملة انتخابية ذكية لقيت صدى لدى ناخبيه. وبعض عناصر الحملة تستحق المحاكاة، مثل الدعوة إلى ترك القلق والتحلي بالتفاؤل. فقد كان من الممكن أن يتحول المستقبل الاقتصادي الكئيب إلى عصا لضرب أردوغان، لكن «إمام أوغلو» أدرك أن الناخبين لا يريدون منه أن يربط بين كآبة الواقع الاقتصادي والرئيس. وبدلاً من أن يُذكِّر الناخبين بمدى سوء الأوضاع، حافظ إمام أوغلو على مزاج إيجابي جسده شعار حملته وهو أن «كل شيء سيصبح رائعاً».
ومن الجوانب المهمة أيضاً، الرسالة التي نقلتها حملته ومفادها أن الأمر لا يتعلق بالهوية. فقد ظلت السياسة التركية على مدار عقدين تتعلق إلى حد كبير بالهوية. وكان حزب «العدالة والتنمية» الذي يتزعمه أردوغان يقدم نفسه على أنه يُمثل الإسلام، واعتنق جانب كبير من المعارضة علمانية مصطفى كمال أتاتورك. ورغم أن إمام أوغلو من حزب «الشعب الجمهوري»، الذي أسسه أتاتورك، لكنه تجنب عامداً الحزبية التي ميزت الحملات السابقة. ودأب إمام أوغلو على صلاة الجمعة ولم يتنكر للطابع الديني كما دأب السياسيون العلمانيون عادة. وخاض حملته أثناء شهر رمضان وتناول إفطاره مع الناخبين. وهذا جعل من الصعب على حزب «العدالة والتنمية» وصفه بأنه علماني نمطي، مما كان سيؤثر عليه لدى بعض الناخبين المتدينين. وكثف إمام أوغلو حملته في كثير من الأحياء التي يكثر بها المتدينون في اسطنبول والتي اعتبرت عادة قضايا خاسرة للأحزاب العلمانية. وأثناء الانتخابات الأولى والثانية استطاع الفوز بعدد من الدوائر المؤيدة تقليدياً لحزب «العدالة والتنمية».
وأكثر استراتيجيات حملته نجاحاً ربما تكون تجنبه إطلاق الأوصاف على الآخرين. وبدلاً من استنكار ورفض قاعدة أردوغان التصويتية والطعن فيها، بذل إمام أوغلو جهداً للتواصل معهم في خطة وصفت بأنها «حب راديكالي» وهذا يعني تجاهل الأوصاف التي أطلقها عليه خصومه- فقد اتهموه بالتودد إلى الإرهابيين الأكراد، كما اتهموه أيضاً أنه يميل سراً إلى اليونانيين- وجنح إلى مخاطبة أنصار أردوغان التقليديين.
وأجدت حملته نفعاً وفاز بأكثر من 800 ألف صوت. وكان هذا أكبر انتكاسة انتخابية في مشوار أردوغان السياسي وأول هزيمة كبيرة لنسخته من الشعبوية. فهل يجدي النهج الذي اتبع إمام أوغلو في التصدي للشعبويين الآخرين في مناطق أخرى من العالم؟ لن نعرف الإجابة على هذا السؤال إلا بإعادة التجربة. لكن مع الأخذ في الاعتبار نطاق انتصار إمام أوغلو الكبير، ربما يتعين على الليبراليين في مناطق أخرى أن يحاولوا استحضار تجربته.
*كاتب متخصص في شؤون الشرق الأوسط والعالم الإسلامي.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس