اعتزام دونالد ترامب فرض رسوم جمركية على الواردات المكسيكية إذا لم تفعل جارتنا شيئاً -لم يوضح طبيعته- من أجل وقف تدفق طالبي اللجوء هو من شبه المؤكد أمر غير قانوني: ذلك أن قانون التجارة الأميركي يمنح الرؤساء السلطة التقديرية لفرض رسوم جمركية لعدد من الأسباب، ولكن كبح الهجرة ليس واحداً منها.
كما أنه يمثل انتهاكاً واضحاً للاتفاقيات الدولية التي وقعت عليها الولايات المتحدة. وفضلاً عن ذلك، سيخفض مستوى معيشة معظم الأميركيين، ويدمر وظائف كثيرة في قطاع الصناعة الأميركي، ويضر بالمزارعين. ولكن لنضع كل ذلك جانباً ولنتحدث عن الأشياء السيئة فعلاً.
ترامب يقول إن «التعريفات الجمركية كلمة جميلة بالفعل»، ولكن التاريخ الحقيقي للتعريفات الجمركية الأميركية ليس جميلاً، وليس فقط لأن هذه الأخيرة، وبغض النظر عما يتواتر في تغريدات ترامب، تمثل في الواقع ضرائب على الأميركيين، وليس الأجانب. بل يمكن القول إن الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس الأميركي ستمحو أي مكاسب حصل عليها الأميركيون من خفض الضرائب في 2017.
إن سياسة الرسوم الجمركية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بدور الولايات المتحدة كقوة عظمى عالمية. ومن الشروط الأساسية لذاك الدور توقُّعُ أن تكون الولايات المتحدة بلداً موثوقاً ومسؤولاً- أي أن تفي بأي اتفاقيات تبرمها، وتسن السياسات وهي تفكر في تداعيات أعمالها على بقية العالم.
اللافت أن الرسوم الجمركية الأميركية على المكسيك تنتهك اتفاقية «نافتا»، التي كان يفترض أن تكفل حرية حركة السلع داخل أميركا الشمالية، كما تنتهك التزاماتنا في إطار منظمة التجارة العالمية، التي لا تسمح بتعريفات جديدة إلا تحت ظروف معينة، على غرار القانون الأميركي. ولهذا، يمكن القول إن أميركا أضحت لاعباً غير قانوني في الأسواق العالمية، ودولة مارقة في ما يتعلق بسياسة الرسوم الجمركية.
ولكن هناك المزيد. فمن خلال استخدام الرسوم الجمركية كعصا ضد كل ما لا يعجبنا، تعيد الإدارة الأميركية الحالية سياسة عدم المسؤولية التي أظهرتها عقب الحرب العالمية الأولى، وإنْ لم يكن بالطبع السبب الوحيد أو حتى الرئيسي للكساد الكبير وصعود الفاشية واندلاع الحرب العالمية الثانية في الأخير، إلا أنه ساعد على خلق البيئة التي مهدت لظهور هذه الكوارث.
وأعتقد أنه من المعروف على نطاق واسع أن أميركا أدارت ظهرها للعالم بعد الحرب العالمية الأولى: إذ رفضت الانضمام إلى «عصبة الأمم»، وأغلقت الباب في وجه معظم أنواع الهجرة. غير أن ما لا يعرفه بعض الناس، في اعتقادي، أن أميركا أخذت أيضاً منعطفاً حمائياً حاداً قبل «قانون سموت هالي» 1930 بوقت طويل. ففي أوائل 1921، سنّ الكونجرس «قانون تعريفات الطوارئ الجمركية»، متبوعاً بـ«تعريفات فوردني-ماكمبر» لعام 1922. قانونان ضاعفا متوسط الرسوم الجمركية على الواردات الخاضعة للضرائب. وعلى غرار الإدارة الأميركية الحالية، فقد زعم المدافعون عن تلك الرسوم أنها ستجلب الرخاء لكل الأميركيين، ولكنها لم تفعل.
والواقع أنه كانت ثمة بالفعل طفرة صناعية لم يكن سببها التعريفات وإنما المنتجات الجديدة مثل السيارات الرخيصة والتكنولوجيات الجديدة مثل خطوط التجميع. غير أن المزارعين أمضوا العشرينيات يعانون من انخفاض أسعار منتجاتهم وارتفاع أسعار معدات المزارع، ما أدى إلى ارتفاع حالات الحبس نتيجة التعثر في السداد ومصادرة الممتلكات.
جزء من المشكلة هو أن الرسوم الجمركية الأميركية قوبلت برد مماثل. فحتى قبل قدوم «الكساد الكبير»، كان العالم منخرطاً في حرب تجارية متصاعدة بشكل تدريجي. ومما زاد الطين بلة أن الرسوم الجمركية الأميركية وضعت حلفاءنا في الحرب العالمية الأولى في وضع مستحيل: ذلك أننا كنا نتوقع منهم أن يسددوا ديونهم الضخمة زمن الحرب، ولكن تعريفاتنا الجمركية جعلت من المستحيل عليهم كسب الدولارات التي يحتاجونها لتسديد تلك الديون.
وخلقت الحرب التجارية مناخاً دولياً من عدم الثقة والمرارة التي ساهمت في الأزمتين السياسية والاقتصادية في الثلاثينيات. وكان لهذه التجربة تأثير عميق على السياسة الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية، والتي كانت مبنية على فكرة أن التجارة الحرة والسلام متلازمان.
وعليه، فهل ما أقوله هو أن ترامب يكرر الأخطاء التي ارتكبتها الولايات المتحدة قبل قرن؟ كلا، فالوضع أسوأ هذه المرة.
وعلى كل حال، إذا لم يكن «وارن هاردينج» -الرئيس التاسع والعشرون للولايات المتحدة- سياسياً جيداً جداً، فإنه لم يكن يفسخ الاتفاقيات الدولية في نوبة غضب. وإذا كانت أميركا في العشرينيات قد فشلت في إنشاء مؤسسات دولية، فإنها لم تسعَ لإضعافها. وإذا كان الزعماء الأميركيون ربما غضوا الطرف بين الحربين عن صعود ديكتاتوريات فاشية، فإنهم لم يثنوا عليها ويشبّهوها بالأنظمة الديمقراطية.
غير أن ثمة ما يكفي من أوجه الشبه بين سياسة التعريفات الجمركية الأميركية في العشرينيات والسياسات التجارية التي تنتهجها الإدارة الأميركية الحالية اليوم حتى تكون لدينا صورة جيدة جداً عما يحدث عندما يرى السياسيون أن التعريفات الجمركية «جميلة» وهي صورة قبيحة!
*أكاديمي أميركي حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»
https://www.nytimes.com/2019/06/03/opinion/trump-tariffs.html
كما أنه يمثل انتهاكاً واضحاً للاتفاقيات الدولية التي وقعت عليها الولايات المتحدة. وفضلاً عن ذلك، سيخفض مستوى معيشة معظم الأميركيين، ويدمر وظائف كثيرة في قطاع الصناعة الأميركي، ويضر بالمزارعين. ولكن لنضع كل ذلك جانباً ولنتحدث عن الأشياء السيئة فعلاً.
ترامب يقول إن «التعريفات الجمركية كلمة جميلة بالفعل»، ولكن التاريخ الحقيقي للتعريفات الجمركية الأميركية ليس جميلاً، وليس فقط لأن هذه الأخيرة، وبغض النظر عما يتواتر في تغريدات ترامب، تمثل في الواقع ضرائب على الأميركيين، وليس الأجانب. بل يمكن القول إن الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس الأميركي ستمحو أي مكاسب حصل عليها الأميركيون من خفض الضرائب في 2017.
إن سياسة الرسوم الجمركية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بدور الولايات المتحدة كقوة عظمى عالمية. ومن الشروط الأساسية لذاك الدور توقُّعُ أن تكون الولايات المتحدة بلداً موثوقاً ومسؤولاً- أي أن تفي بأي اتفاقيات تبرمها، وتسن السياسات وهي تفكر في تداعيات أعمالها على بقية العالم.
اللافت أن الرسوم الجمركية الأميركية على المكسيك تنتهك اتفاقية «نافتا»، التي كان يفترض أن تكفل حرية حركة السلع داخل أميركا الشمالية، كما تنتهك التزاماتنا في إطار منظمة التجارة العالمية، التي لا تسمح بتعريفات جديدة إلا تحت ظروف معينة، على غرار القانون الأميركي. ولهذا، يمكن القول إن أميركا أضحت لاعباً غير قانوني في الأسواق العالمية، ودولة مارقة في ما يتعلق بسياسة الرسوم الجمركية.
ولكن هناك المزيد. فمن خلال استخدام الرسوم الجمركية كعصا ضد كل ما لا يعجبنا، تعيد الإدارة الأميركية الحالية سياسة عدم المسؤولية التي أظهرتها عقب الحرب العالمية الأولى، وإنْ لم يكن بالطبع السبب الوحيد أو حتى الرئيسي للكساد الكبير وصعود الفاشية واندلاع الحرب العالمية الثانية في الأخير، إلا أنه ساعد على خلق البيئة التي مهدت لظهور هذه الكوارث.
وأعتقد أنه من المعروف على نطاق واسع أن أميركا أدارت ظهرها للعالم بعد الحرب العالمية الأولى: إذ رفضت الانضمام إلى «عصبة الأمم»، وأغلقت الباب في وجه معظم أنواع الهجرة. غير أن ما لا يعرفه بعض الناس، في اعتقادي، أن أميركا أخذت أيضاً منعطفاً حمائياً حاداً قبل «قانون سموت هالي» 1930 بوقت طويل. ففي أوائل 1921، سنّ الكونجرس «قانون تعريفات الطوارئ الجمركية»، متبوعاً بـ«تعريفات فوردني-ماكمبر» لعام 1922. قانونان ضاعفا متوسط الرسوم الجمركية على الواردات الخاضعة للضرائب. وعلى غرار الإدارة الأميركية الحالية، فقد زعم المدافعون عن تلك الرسوم أنها ستجلب الرخاء لكل الأميركيين، ولكنها لم تفعل.
والواقع أنه كانت ثمة بالفعل طفرة صناعية لم يكن سببها التعريفات وإنما المنتجات الجديدة مثل السيارات الرخيصة والتكنولوجيات الجديدة مثل خطوط التجميع. غير أن المزارعين أمضوا العشرينيات يعانون من انخفاض أسعار منتجاتهم وارتفاع أسعار معدات المزارع، ما أدى إلى ارتفاع حالات الحبس نتيجة التعثر في السداد ومصادرة الممتلكات.
جزء من المشكلة هو أن الرسوم الجمركية الأميركية قوبلت برد مماثل. فحتى قبل قدوم «الكساد الكبير»، كان العالم منخرطاً في حرب تجارية متصاعدة بشكل تدريجي. ومما زاد الطين بلة أن الرسوم الجمركية الأميركية وضعت حلفاءنا في الحرب العالمية الأولى في وضع مستحيل: ذلك أننا كنا نتوقع منهم أن يسددوا ديونهم الضخمة زمن الحرب، ولكن تعريفاتنا الجمركية جعلت من المستحيل عليهم كسب الدولارات التي يحتاجونها لتسديد تلك الديون.
وخلقت الحرب التجارية مناخاً دولياً من عدم الثقة والمرارة التي ساهمت في الأزمتين السياسية والاقتصادية في الثلاثينيات. وكان لهذه التجربة تأثير عميق على السياسة الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية، والتي كانت مبنية على فكرة أن التجارة الحرة والسلام متلازمان.
وعليه، فهل ما أقوله هو أن ترامب يكرر الأخطاء التي ارتكبتها الولايات المتحدة قبل قرن؟ كلا، فالوضع أسوأ هذه المرة.
وعلى كل حال، إذا لم يكن «وارن هاردينج» -الرئيس التاسع والعشرون للولايات المتحدة- سياسياً جيداً جداً، فإنه لم يكن يفسخ الاتفاقيات الدولية في نوبة غضب. وإذا كانت أميركا في العشرينيات قد فشلت في إنشاء مؤسسات دولية، فإنها لم تسعَ لإضعافها. وإذا كان الزعماء الأميركيون ربما غضوا الطرف بين الحربين عن صعود ديكتاتوريات فاشية، فإنهم لم يثنوا عليها ويشبّهوها بالأنظمة الديمقراطية.
غير أن ثمة ما يكفي من أوجه الشبه بين سياسة التعريفات الجمركية الأميركية في العشرينيات والسياسات التجارية التي تنتهجها الإدارة الأميركية الحالية اليوم حتى تكون لدينا صورة جيدة جداً عما يحدث عندما يرى السياسيون أن التعريفات الجمركية «جميلة» وهي صورة قبيحة!
*أكاديمي أميركي حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»
https://www.nytimes.com/2019/06/03/opinion/trump-tariffs.html