المعادلة التي أتحدث عنها لا تنطبق على البشر فقط، بل تشمل الدول في تجاورها بعضها بعضاً، فالجبريّة الجغرافية تجعل كل دول العالم جيراناً، متحاددة من جهة واحدة، أو من عدة جهات، إذ لا يوجد على كوكب الأرض دولة من غير جارة أو جيران. وهكذا إنما هو الإنسان، ففي الحياة لا يوجد ما يجعله يطمئن أنه يستطيع أن يعيشها بمفرده لوحده، بل دائماً هناك ما يشير إلى أنه من أجل أن يعيش المرء الحياة، لا بد له من شريك يقاسمه الأفراح والأتراح، ويعاونه على حمل همومها وأثقالها، لتصبح حياته مقبولة أو أقله تبدو له جديرة بأن تُعاش.
علاقة الجوار بين الدول، تقوم في الأساس على مسافة جغرافية ومعنوية حساسة، تدرك الدول الجارة أهميتها، وضرورة الحفاظ عليها، لتبقى العلاقة بينها، حسنة ومتينة، وفي حالة سليمة مستمرة، تُكبح معها أية نزعة غير طبيعية، كالتعدّي أو التدخل في شؤون الجوار بدافع الطمع بالثروة أو الموقع، أو التمدّد وبسط السيطرة. كذلك شأن البشر، فهنالك مسافة معنوية بين أي اثنين، اتفقا على شراكة عاطفية أو تفاهميّة من نوع ما، قامت على القبول والاحترام والالتزام بتقاسم مواجهات الحياة. والدلائل كثيرة على مسافة العلاقة الجغرافية والمعنوية بين التجاور الجغرافي، أو الجوار العاطفي أو التفاهميّة بين الشركاء من البشر، فمثلاً الكتابةُ علمتنا ترك مسافة بين الكلمة والأخرى، ليفهم الآخرون ما نكتب، وحركة المرور اليومية علمتنا ترك مسافة بيننا والسيارة التي أمامنا، لتفادي الاصطدام بها، وحركة الحياة علمتنا ترك مسافة بيننا وبين الآخرين، كي لا نتصادم معهم، فلكي تبقى علاقة الجوار بين الدول متينة وصحية، ولكي يبقى الجميلُ في عيون البشر جميلاً، تقتضي المسألة ضبط المسافة الضامنة للاستمرار، بحيث لا نقترب كثيراً فنُفسد ما بنيناه، ولا نبتعد كثيراً فنُهمل ويطوينا النسيان، فكم من شيء غدا أجمل من بعيد، وكم من شيء صار منفراً من قريب. هذا كله نتيجة للمسافة في حالتي الضبط والانفلات، بين الدول بعلاقاتها المستمرة فيما بينها، وبين البشر بعلائق القلوب في ما بينها.
ومن أعظم سنن الكون وعظمة الخلق، ضبط المسافات: سير الكواكب الدقيق مرتبط بمسافات أدق، فاقتراب الشمس منا لميل واحد يحرق الكوكب، وابتعادها عنا لميل واحد يجمّد كل ما حولنا. إن الاستمرار في الحياة يقتضي الحرص على ضبط المسافات بين الكيانات كالدول، والكائنات كالبشر خصوصاً، وإلاَّ فإن الحياة لن تستقيم. هنالك رمزية رائعة على ضبط المسافة، في قصة يرويها الفيلسوف الألماني (شوبنهاور)، يقول:(رأيت مجموعة من القنافذ، اقتربت من بعضها في إحدى ليالي الشتاء المتجمّدة، طلباً للدفء وهرباً من الجو شديد البرودة، لكنها لاحظت أنها كلما اقتربت من بعضها أكثر، شعرت بوخز الأشواك التي تحيط بأجسادها، مما يسبب لها ألما شديداً، وإنها كلما ابتعدت عن بعضها البعض، شعرت بالبرودة تجمّد أطرافها، وبحاجتها للدفء في أحضان أصدقائها. بقوا على هذه الحال، بين ألم الاقتراب وهجير الابتعاد، إلى أن توصلوا إلى المسافة المناسبة، التي تقيهم من برودة الجليد وتضمن لهم درجة أقل من ألم وخز الأشواك). إن أشواك بعض الدول المتجاورة لا تظهر أحياناً، ولا تشعر بآلام وخزاتها، إلاّ عندما تقترب منها، بنية صادقة ومتحضّرة، لإقامة علاقة ما معها، لتكتشف أن ليس كل دولة جارة، تستحق أن تقيم معها علاقة سويّة، تقوم على الصفاء والاحترام والمنافع المتبادلة، وأن المسافة الفاصلة، في مثل هذه الحالة، تكون غير مناسبة تستوجب إعادة ضبطها من جديد. إن إدارة المسافات فنٌ يتوجّب على الدول والبشر تفهمه وإتقانه.
* إعلامي وكاتب صحفي
علاقة الجوار بين الدول، تقوم في الأساس على مسافة جغرافية ومعنوية حساسة، تدرك الدول الجارة أهميتها، وضرورة الحفاظ عليها، لتبقى العلاقة بينها، حسنة ومتينة، وفي حالة سليمة مستمرة، تُكبح معها أية نزعة غير طبيعية، كالتعدّي أو التدخل في شؤون الجوار بدافع الطمع بالثروة أو الموقع، أو التمدّد وبسط السيطرة. كذلك شأن البشر، فهنالك مسافة معنوية بين أي اثنين، اتفقا على شراكة عاطفية أو تفاهميّة من نوع ما، قامت على القبول والاحترام والالتزام بتقاسم مواجهات الحياة. والدلائل كثيرة على مسافة العلاقة الجغرافية والمعنوية بين التجاور الجغرافي، أو الجوار العاطفي أو التفاهميّة بين الشركاء من البشر، فمثلاً الكتابةُ علمتنا ترك مسافة بين الكلمة والأخرى، ليفهم الآخرون ما نكتب، وحركة المرور اليومية علمتنا ترك مسافة بيننا والسيارة التي أمامنا، لتفادي الاصطدام بها، وحركة الحياة علمتنا ترك مسافة بيننا وبين الآخرين، كي لا نتصادم معهم، فلكي تبقى علاقة الجوار بين الدول متينة وصحية، ولكي يبقى الجميلُ في عيون البشر جميلاً، تقتضي المسألة ضبط المسافة الضامنة للاستمرار، بحيث لا نقترب كثيراً فنُفسد ما بنيناه، ولا نبتعد كثيراً فنُهمل ويطوينا النسيان، فكم من شيء غدا أجمل من بعيد، وكم من شيء صار منفراً من قريب. هذا كله نتيجة للمسافة في حالتي الضبط والانفلات، بين الدول بعلاقاتها المستمرة فيما بينها، وبين البشر بعلائق القلوب في ما بينها.
ومن أعظم سنن الكون وعظمة الخلق، ضبط المسافات: سير الكواكب الدقيق مرتبط بمسافات أدق، فاقتراب الشمس منا لميل واحد يحرق الكوكب، وابتعادها عنا لميل واحد يجمّد كل ما حولنا. إن الاستمرار في الحياة يقتضي الحرص على ضبط المسافات بين الكيانات كالدول، والكائنات كالبشر خصوصاً، وإلاَّ فإن الحياة لن تستقيم. هنالك رمزية رائعة على ضبط المسافة، في قصة يرويها الفيلسوف الألماني (شوبنهاور)، يقول:(رأيت مجموعة من القنافذ، اقتربت من بعضها في إحدى ليالي الشتاء المتجمّدة، طلباً للدفء وهرباً من الجو شديد البرودة، لكنها لاحظت أنها كلما اقتربت من بعضها أكثر، شعرت بوخز الأشواك التي تحيط بأجسادها، مما يسبب لها ألما شديداً، وإنها كلما ابتعدت عن بعضها البعض، شعرت بالبرودة تجمّد أطرافها، وبحاجتها للدفء في أحضان أصدقائها. بقوا على هذه الحال، بين ألم الاقتراب وهجير الابتعاد، إلى أن توصلوا إلى المسافة المناسبة، التي تقيهم من برودة الجليد وتضمن لهم درجة أقل من ألم وخز الأشواك). إن أشواك بعض الدول المتجاورة لا تظهر أحياناً، ولا تشعر بآلام وخزاتها، إلاّ عندما تقترب منها، بنية صادقة ومتحضّرة، لإقامة علاقة ما معها، لتكتشف أن ليس كل دولة جارة، تستحق أن تقيم معها علاقة سويّة، تقوم على الصفاء والاحترام والمنافع المتبادلة، وأن المسافة الفاصلة، في مثل هذه الحالة، تكون غير مناسبة تستوجب إعادة ضبطها من جديد. إن إدارة المسافات فنٌ يتوجّب على الدول والبشر تفهمه وإتقانه.
* إعلامي وكاتب صحفي