هل ما زالت ثمة أزمة في فنزويلا؟ الواقع أنه بالنظر إلى الرئيس دونالد ترامب، يصعب على المرء اعتقاد ذلك. ففي شهر يناير الماضي، بدا الرئيس وكبار مساعديه مقتنعين بقضية خلع النظام المستبد والفاسد في كاركاس. فقد قام البيت الأبيض بما كان يعتقد أنه سيكون ضربة حاسمة عبر حظر المشتريات الأميركية من النفط الفنزويلي والتلميح إلى أن غزواً عسكرياً يوجد قيد البحث.
لكن بعد خمسة أشهر، ما زال الرئيس مادورو في منصبه، والسياسة الأميركية في حالة سبات، ولم يكن ثمة أي تدخل، وبعد محاولتين فاشلتين للضغط في اتجاه انهيار النظام، عادت المعارضة الفنزويلية إلى التفاوض مع مادورو، بمساعدة حكومات من أميركا اللاتينية وأوروبا، ودون أي مشاركة أميركية. وبالمقابل، راح ترامب «يشتكي من أنه ضُلل بخصوص مدى سهولة استبدال الرجل القوي الاشتراكي»، حسبما أفادت صحيفة «واشنطن بوست» الشهر الماضي.
ومؤخراً، اختار الرئيس الأميركي هدفاً جديداً هو المكسيك التي أمطرها بتهديدات حول الرسوم الجمركية، مطالباً إياها أن تقوم فوراً بوقف تدفق المهاجرين والمخدرات عبر الحدود بشكل فوري، قبل القبول بتسوية تجميلية. وقبل المكسيك، كانت إيران التي بدا ترامب مستعداً للذهاب إلى حرب معها في أوائل مايو الماضي إذا لم تتراجع عن سياستها الخارجية بشكل كلي. وقبل ذلك كانت كوريا الشمالية التي هددها في البداية بـ«النار والغضب»، ثم عاد وأسبغ عليها «الحب» في محاولة مماثلة لتفكيك ترسانتها النووية.
واللافت أننا هنا أمام نسق واحد. فترامب يستهدف خصماً أجنبياً، فيقدم مطلباً متشدداً: تغيير النظام، التجرد من السلاح بشكل كلي، «وقف تدفق الأشخاص والمخدرات بشكل فوري». وإذ يرفض التنسيقَ مع الحلفاء أو الكونجرس، يتبنى إجراءات دراماتيكية يفترض أنها ستأتي بنتيجة سريعة: الحظر النفطي، الرسوم الجمركية، التهديد بعمل عسكري. ثم عندما يتبين أنه ليس من السهل، في العالم الحقيقي، تنحية دكتاتور أميركي لاتيني، أو تجريد كوريا الشمالية من أسلحتها النووية، يتراجع أو ينتقل إلى الهدف التالي ببساطة.
وفي هذه الحالة، فإن ما يبقى وراءه هو سلسلة من إخفاقات السياسة الخارجية. جيش صغير من المبعوثين الخاصيين التابعين لوزارة الخارجية يكافح لإزالة الفوضى، وإضافة إلى كوريا الشمالية وفنزويلا وإيران، يمكن إيجاد هؤلاء في أفغانستان وسوريا.
وفي هذا الأثناء، يبدي ترامب اتزاناً ورباطةَ جأش. فكوريا الشمالية عادت إلى إطلاق الصواريخ، لكن الرئيس «شخصياً» غير منزعج. فقد قال الشهر الماضي: «إن مساعدي يعتقدون أن ذلك ربما يمثل انتهاكاً»، مضيفاً: «لكنني أنظر إلى الأمر بشكل مختلف».
عمل عسكري ضد إيران؟ «أفضّل ألا يحدث ذلك»، يقول ترامب الآن، بعد أسابيع على اتخاذه قرار حظر كل مبيعات النفط الإيرانية، وإرساله قوات جديدة إلى الخليج، وتحذيره إيران من «ألا تهدد الولايات المتحدة أبداً مرةً أخرى» لأن «ذلك سيكون النهاية الرسمية لإيران».
وربما يجدر بنا أحياناً أن نتمنى عدم ثبات ترامب على موقفه. ذلك أن من شأن غزو أميركي لفنزويلا أو حرب مع كوريا الشمالية أو إيران أن يمثل كارثة على كل حال. وبالمقابل، لدينا فقط سلسلة من الإحراجات التي تقوّض مصداقية الولايات المتحدة وتصبّ في مصلحة خصوم أكثر كفاءة، مثل روسيا والصين.
بيد أن المشكلة هي أن عدداً من الأزمات التي انسحب منها ترامب تنطوي على قنابل موقوتة. فكوريا الشمالية ما زالت تعاني العقوبات ونقص المواد الغذائية، ونظام كيم جونغ أون يلمّح إلى أنه إذا لم يحصل على تخفيف للعقوبات بنهاية السنة، فإنه سيتخطى الخطوط الحمر الأميركية، مثل اختبار صواريخ بالستية. ومع انخفاض عائداتها النفطية بفضل ترامب، تتجه إيران أيضاً نحو التخلص من القيود على برنامجها النووي. وفضلاً عن ذلك، فإن المهاجرين من أميركا الوسطى سيواصلون القدوم إلى الولايات المتحدة عبر المكسيك.
وإذا كان مادورو لا يستطيع فعل الكثير لتهديد الولايات المتحدة، فإنه يستطيع مواصلة قمع شعبه، ويستطيع الصمود، بينما تؤدي العقوبات النفطية الجذرية التي فرضها ترامب، والتي تسببت في انهيار عائدات فنزويلا المتقلصة أصلاً، إلى مفاقمة أزمة إنسانية، يحمّل الكثيرون الولايات المتحدة مسؤوليتَها على نحو متزايد.
وربما يحالف الحظُّ ترامب، فيُنزع فتيل هذه القنابل بشكل تلقائي. وقد ينحّى مادورو أخيراً من قبل جنرالاته أو يسهّل خروجه من قبل دبلوماسيين من أميركا اللاتينية وأوروبا. وبدلاً من التسبب في أزمة، قد تقرر إيران وكوريا الشمالية الانتظار لرؤية ما إن كان ترامب سيخسر محاولة إعادة ترشحه.
لكن ما لن يحدث على نحو مؤكد هو تحقيق ترامب لأهدافه عبر وصفته القائمة على الوعيد والتصعيد ثم النسيان. ذلك أن معالجة مشكلات مستعصية، مثل كوريا الشمالية وإيران، أو حتى فنزويلا والحدود المكسيكية، تتطلب استراتيجية معقدة ومقاربة صبورة. والحال أن الرئيس الأميركي الحالي لا يملك أياً منهما.
*محلل سياسي أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»
لكن بعد خمسة أشهر، ما زال الرئيس مادورو في منصبه، والسياسة الأميركية في حالة سبات، ولم يكن ثمة أي تدخل، وبعد محاولتين فاشلتين للضغط في اتجاه انهيار النظام، عادت المعارضة الفنزويلية إلى التفاوض مع مادورو، بمساعدة حكومات من أميركا اللاتينية وأوروبا، ودون أي مشاركة أميركية. وبالمقابل، راح ترامب «يشتكي من أنه ضُلل بخصوص مدى سهولة استبدال الرجل القوي الاشتراكي»، حسبما أفادت صحيفة «واشنطن بوست» الشهر الماضي.
ومؤخراً، اختار الرئيس الأميركي هدفاً جديداً هو المكسيك التي أمطرها بتهديدات حول الرسوم الجمركية، مطالباً إياها أن تقوم فوراً بوقف تدفق المهاجرين والمخدرات عبر الحدود بشكل فوري، قبل القبول بتسوية تجميلية. وقبل المكسيك، كانت إيران التي بدا ترامب مستعداً للذهاب إلى حرب معها في أوائل مايو الماضي إذا لم تتراجع عن سياستها الخارجية بشكل كلي. وقبل ذلك كانت كوريا الشمالية التي هددها في البداية بـ«النار والغضب»، ثم عاد وأسبغ عليها «الحب» في محاولة مماثلة لتفكيك ترسانتها النووية.
واللافت أننا هنا أمام نسق واحد. فترامب يستهدف خصماً أجنبياً، فيقدم مطلباً متشدداً: تغيير النظام، التجرد من السلاح بشكل كلي، «وقف تدفق الأشخاص والمخدرات بشكل فوري». وإذ يرفض التنسيقَ مع الحلفاء أو الكونجرس، يتبنى إجراءات دراماتيكية يفترض أنها ستأتي بنتيجة سريعة: الحظر النفطي، الرسوم الجمركية، التهديد بعمل عسكري. ثم عندما يتبين أنه ليس من السهل، في العالم الحقيقي، تنحية دكتاتور أميركي لاتيني، أو تجريد كوريا الشمالية من أسلحتها النووية، يتراجع أو ينتقل إلى الهدف التالي ببساطة.
وفي هذه الحالة، فإن ما يبقى وراءه هو سلسلة من إخفاقات السياسة الخارجية. جيش صغير من المبعوثين الخاصيين التابعين لوزارة الخارجية يكافح لإزالة الفوضى، وإضافة إلى كوريا الشمالية وفنزويلا وإيران، يمكن إيجاد هؤلاء في أفغانستان وسوريا.
وفي هذا الأثناء، يبدي ترامب اتزاناً ورباطةَ جأش. فكوريا الشمالية عادت إلى إطلاق الصواريخ، لكن الرئيس «شخصياً» غير منزعج. فقد قال الشهر الماضي: «إن مساعدي يعتقدون أن ذلك ربما يمثل انتهاكاً»، مضيفاً: «لكنني أنظر إلى الأمر بشكل مختلف».
عمل عسكري ضد إيران؟ «أفضّل ألا يحدث ذلك»، يقول ترامب الآن، بعد أسابيع على اتخاذه قرار حظر كل مبيعات النفط الإيرانية، وإرساله قوات جديدة إلى الخليج، وتحذيره إيران من «ألا تهدد الولايات المتحدة أبداً مرةً أخرى» لأن «ذلك سيكون النهاية الرسمية لإيران».
وربما يجدر بنا أحياناً أن نتمنى عدم ثبات ترامب على موقفه. ذلك أن من شأن غزو أميركي لفنزويلا أو حرب مع كوريا الشمالية أو إيران أن يمثل كارثة على كل حال. وبالمقابل، لدينا فقط سلسلة من الإحراجات التي تقوّض مصداقية الولايات المتحدة وتصبّ في مصلحة خصوم أكثر كفاءة، مثل روسيا والصين.
بيد أن المشكلة هي أن عدداً من الأزمات التي انسحب منها ترامب تنطوي على قنابل موقوتة. فكوريا الشمالية ما زالت تعاني العقوبات ونقص المواد الغذائية، ونظام كيم جونغ أون يلمّح إلى أنه إذا لم يحصل على تخفيف للعقوبات بنهاية السنة، فإنه سيتخطى الخطوط الحمر الأميركية، مثل اختبار صواريخ بالستية. ومع انخفاض عائداتها النفطية بفضل ترامب، تتجه إيران أيضاً نحو التخلص من القيود على برنامجها النووي. وفضلاً عن ذلك، فإن المهاجرين من أميركا الوسطى سيواصلون القدوم إلى الولايات المتحدة عبر المكسيك.
وإذا كان مادورو لا يستطيع فعل الكثير لتهديد الولايات المتحدة، فإنه يستطيع مواصلة قمع شعبه، ويستطيع الصمود، بينما تؤدي العقوبات النفطية الجذرية التي فرضها ترامب، والتي تسببت في انهيار عائدات فنزويلا المتقلصة أصلاً، إلى مفاقمة أزمة إنسانية، يحمّل الكثيرون الولايات المتحدة مسؤوليتَها على نحو متزايد.
وربما يحالف الحظُّ ترامب، فيُنزع فتيل هذه القنابل بشكل تلقائي. وقد ينحّى مادورو أخيراً من قبل جنرالاته أو يسهّل خروجه من قبل دبلوماسيين من أميركا اللاتينية وأوروبا. وبدلاً من التسبب في أزمة، قد تقرر إيران وكوريا الشمالية الانتظار لرؤية ما إن كان ترامب سيخسر محاولة إعادة ترشحه.
لكن ما لن يحدث على نحو مؤكد هو تحقيق ترامب لأهدافه عبر وصفته القائمة على الوعيد والتصعيد ثم النسيان. ذلك أن معالجة مشكلات مستعصية، مثل كوريا الشمالية وإيران، أو حتى فنزويلا والحدود المكسيكية، تتطلب استراتيجية معقدة ومقاربة صبورة. والحال أن الرئيس الأميركي الحالي لا يملك أياً منهما.
*محلل سياسي أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»