كان الفن ومازال، بأشكاله المختلفة، هدفاً للجماعات الدِّينية، لعدم انسجامه مع عقيدتهم في الحاكمية، ووفق مفهومهم للحياة أنها مجرد تهيئة للموت، وهذا ما يقود إلى الاستخفاف بالأرواح، الفكر الذي يغسل الأدمغة، فتصبح الجنة عند الانتحاري عبر سحق الديناميت. لكنَّ غاسلي الأدمغة، مشائخ التَّطرف، لا يتركون فرصةً إلا اغتنموها لنيل لذائذ الدُّنيا، وإذا مرضوا يستشفون في أرقى المستشفيات حرصاً على الحياة ومباهجها.
لصقت بالفن هزائم كبرى، مثل نكسة(1967) التي رميت بعض مسؤوليتها، مِن على المنابر يومذاك، على أم كلثوم(ت1975)، وراح الشَّيخ عبد الحميد كُشك(1996) خطيب الصَّحوة، يسخر منها، فقال: «الكلمات التي يهتز لها عرش الرَّحمن غضباً»! بينما لم يهتز العرش عندهم لِما أسفرت عنه فتاواهم مِن مجازر بشرية! إنها الصَّحوة المدمرة، التي نتائجها «القاعدة» و«داعش»، مع أن ما غنته أُم كلثوم لفلسطين، وما غنته فيروز للقدس، تركا القضية الفلسطينية حيَّة في ذاكرة الأجيال، وليس اتخاذها سلماً للكسب الحزبي والسُّلطة.
ما جمعته أغنية «القدس لنَّا» شتته «فيلق القُدس»، إحدى نتائج الصَّحوة، الفيلق الذي أخذ يتفرع إلى ميليشيات عابثة، وما تركته أغنية «إلى فلسطين خذوني معكم» مِن عاطفة لفلسطين، قوضته الجماعات الدِّينية بانتحارييها، الأغنية التي سخر كشك مِن صاحبتها، وكان توزيع كاسيتاته مهمة الصحويين الأولى لمنافسة أهل الفن. لم تبق حاكمية إيران الإلهية على صوت «ككوش»؟! لأن الصَّوت الجميل والفن الرَّاقي منافسٌ لها على الجمهور، وهذا سرّ شيطنة أهل الفن.
لهذا جعل الإسلاميون «زِرياب» سبباً بسقوط الأندلس، مع أن علي بن نافع الشَّهير بزِرْياب(ت245ه) بينه وبين الحدث ستة قرون. جاء ذلك في محاضرات أحد السلفيين المصريين، وقد أخذته الدَّهشة عندما لفظ الاسم بـ «زرياد»، وصحح له الحاضرون إنه «زِرْياب»، فصار لديه شاهد آخر على مواصلة زِرياب، بعد الأندلس، إلى اسقاط التجارب الإسلامية اليوم؟! فهل أخبرتكم الأيام بتجني أكثر مِن الادعاء بأن زِرياب «وجد ضالته بالأندلس»، أي كان متآمراً، وما زال كذلك على الإسلام والمسلمين، حسب المحاضرة المعنونة «زرياب أحد أسباب سقوط الأندلس»(يوتيوب).
مِن العادة عند العقائديين لابد مِن ضحية تتحمل الهزائم، وها هي هزيمة الأندلس يتحملها زِرْياب! فأي استخفاف هذا بالعقل، وأي حقد دفين على الفن؟! البحث عن متآمر ترمى عليه أشرعة الانحطاط، ولا ندري كم نكسة وكم انحطاط إمبراطورية تُحمَّل لأهل الفن، مِن زِرْياب إلى أم كلثوم. أقول: هل متن حبل الدِّين وشاع الازدهار بعد حجب وحجر سيدة الغناء الإيراني «كوكوش»؟! وكأنها كانت هي العائق!
وصل زرِياب إلى بغداد، وكان مِن أصحاب البشرة السَّوداء، عن طريق أستاذه إبراهيم الموصلي(ت188ه)، فقدمه للرَّشيد(ت193ه)، وفاق أستاذه بفنه، فخاف على نفسه من حسده، لذا التجأ إلى القيروان، ومنها أتصل بالخلفاء الأمويين بالأندلس، فصار له منزلة عند عبد الرَّحمن بن الحكم(ت238ه)، لأنه صاحب باع في الموسيقى. ولنَّا اعتباره «بيتهوفن» عصره، والأخير ساهم في عصر الأنوار الأوروبي كموسيقار، مخلفاً نفائس «السمفونيات» للبشرية، ولم يُخلف الدَّمار، وإذا كان هناك حنين للعصر الأموي بالأندلس فإن لزِرياب فضلاً، وما زالت الموشحات الأندلسية تملأ الأسماع نغماً ورفاهية.
حسب خيال المحاضر السَّلفي، أن «زِرياب» زرع بذرة السُّقوط، دون الالتفات لتقدم الأندلس في ذلك الزَّمان، وتنويرها الذي تأثر به الغرب، بينما يُفَرغ منه الشّرق بفعل الانتكاسات الظَّلامية، ومازال خصوم زِرْياب يطردون النُّور بظلامهم.
لا يهم الجماعات الدينية الحزبية سقوط الأندلس، وهم الآن يحاولون إسقاط تجارب حضارية، بل يراهنون على كسوف شمس التنوير بالعالم أجمع. طمر كل شيء جميل في الدُّنيا والدّين، فالموسيقى التي شخص «إخوان الصَّفا»(القرن الرابع الهجري) فوائدها للبشر(رسالتهم في الموسيقى)، في علاج الأمراض، والتخفيف من الحنق والكراهية، وما يسفر عن الحروب مِن مآسٍ، صارت خصماً للحاكمية الإسلامية، مع أن للموسيقى فضلها في ثقافة التَّسامح، فزِرياب وأحفاده الموسيقيين لم يقتلوا أحداً ولم يهدموا بلاداً.
يكاد الجميع ينقل أخبار زِرْياب مِن «المقتبس» لمؤلفه القرطبي(ت469ه)، فهو الأقدم في هذا المجال، أقصد ما أدخله ونقله هذا المثقف إلى الأندلس مِن بغداد، وكان حينها جديداً فيها، فقد زاد على العود، الذي يعزف عليه الإسلاميون أناشيدهم الجهادية اليوم، الوتر الخامس، وجعله مقابل موضع النّفس مِن الجسد، وأسس نظاماً لتدريس الموسيقى هناك، وأدخل موضة الألبسة لكل فصل لون ولباس خاص، وأدخل استخدام آنية الزجاج في الموائد بدلاً مِن المعادن، وأنواع أطعمة أحبها الخواص والعوام، وتأثر محبوه بموضة شعره(القرطبي، السّفر الثَّاني من المقتبس، والمقري، نفح الطيب من غصن الأندلس الرَّطيب)، مثلما تأثر محبو «ألفيس برسلي» بموضته، لكنه «برسلي» لم يُسقط أميركا، بل وجدناها تتقدم به، مثلما تقدمت الأندلس بزّرياب.
يوماً بعد يوم تتكاثر عجائب وغرائب الإسلام السِّياسي، بشتى فروعه، ولم يبق غير زرياب يتهمونه بسقوط الأندلس، وإلى اليوم يجعلونه عدواً! أما اللقب الذي غلب على اسمه: «وقع عليه ببلده، مِن أجل سُحمة لونه، مع فصاحة لسانه، وحلاوة شمائله، شُبهَ بطائر أسود غرد عندهم للتمثيل به»(السَّيد، معجم الألقاب والأسماء المستعارة في التَّاريخ العربي والإسلامي).
لصقت بالفن هزائم كبرى، مثل نكسة(1967) التي رميت بعض مسؤوليتها، مِن على المنابر يومذاك، على أم كلثوم(ت1975)، وراح الشَّيخ عبد الحميد كُشك(1996) خطيب الصَّحوة، يسخر منها، فقال: «الكلمات التي يهتز لها عرش الرَّحمن غضباً»! بينما لم يهتز العرش عندهم لِما أسفرت عنه فتاواهم مِن مجازر بشرية! إنها الصَّحوة المدمرة، التي نتائجها «القاعدة» و«داعش»، مع أن ما غنته أُم كلثوم لفلسطين، وما غنته فيروز للقدس، تركا القضية الفلسطينية حيَّة في ذاكرة الأجيال، وليس اتخاذها سلماً للكسب الحزبي والسُّلطة.
ما جمعته أغنية «القدس لنَّا» شتته «فيلق القُدس»، إحدى نتائج الصَّحوة، الفيلق الذي أخذ يتفرع إلى ميليشيات عابثة، وما تركته أغنية «إلى فلسطين خذوني معكم» مِن عاطفة لفلسطين، قوضته الجماعات الدِّينية بانتحارييها، الأغنية التي سخر كشك مِن صاحبتها، وكان توزيع كاسيتاته مهمة الصحويين الأولى لمنافسة أهل الفن. لم تبق حاكمية إيران الإلهية على صوت «ككوش»؟! لأن الصَّوت الجميل والفن الرَّاقي منافسٌ لها على الجمهور، وهذا سرّ شيطنة أهل الفن.
لهذا جعل الإسلاميون «زِرياب» سبباً بسقوط الأندلس، مع أن علي بن نافع الشَّهير بزِرْياب(ت245ه) بينه وبين الحدث ستة قرون. جاء ذلك في محاضرات أحد السلفيين المصريين، وقد أخذته الدَّهشة عندما لفظ الاسم بـ «زرياد»، وصحح له الحاضرون إنه «زِرْياب»، فصار لديه شاهد آخر على مواصلة زِرياب، بعد الأندلس، إلى اسقاط التجارب الإسلامية اليوم؟! فهل أخبرتكم الأيام بتجني أكثر مِن الادعاء بأن زِرياب «وجد ضالته بالأندلس»، أي كان متآمراً، وما زال كذلك على الإسلام والمسلمين، حسب المحاضرة المعنونة «زرياب أحد أسباب سقوط الأندلس»(يوتيوب).
مِن العادة عند العقائديين لابد مِن ضحية تتحمل الهزائم، وها هي هزيمة الأندلس يتحملها زِرْياب! فأي استخفاف هذا بالعقل، وأي حقد دفين على الفن؟! البحث عن متآمر ترمى عليه أشرعة الانحطاط، ولا ندري كم نكسة وكم انحطاط إمبراطورية تُحمَّل لأهل الفن، مِن زِرْياب إلى أم كلثوم. أقول: هل متن حبل الدِّين وشاع الازدهار بعد حجب وحجر سيدة الغناء الإيراني «كوكوش»؟! وكأنها كانت هي العائق!
وصل زرِياب إلى بغداد، وكان مِن أصحاب البشرة السَّوداء، عن طريق أستاذه إبراهيم الموصلي(ت188ه)، فقدمه للرَّشيد(ت193ه)، وفاق أستاذه بفنه، فخاف على نفسه من حسده، لذا التجأ إلى القيروان، ومنها أتصل بالخلفاء الأمويين بالأندلس، فصار له منزلة عند عبد الرَّحمن بن الحكم(ت238ه)، لأنه صاحب باع في الموسيقى. ولنَّا اعتباره «بيتهوفن» عصره، والأخير ساهم في عصر الأنوار الأوروبي كموسيقار، مخلفاً نفائس «السمفونيات» للبشرية، ولم يُخلف الدَّمار، وإذا كان هناك حنين للعصر الأموي بالأندلس فإن لزِرياب فضلاً، وما زالت الموشحات الأندلسية تملأ الأسماع نغماً ورفاهية.
حسب خيال المحاضر السَّلفي، أن «زِرياب» زرع بذرة السُّقوط، دون الالتفات لتقدم الأندلس في ذلك الزَّمان، وتنويرها الذي تأثر به الغرب، بينما يُفَرغ منه الشّرق بفعل الانتكاسات الظَّلامية، ومازال خصوم زِرْياب يطردون النُّور بظلامهم.
لا يهم الجماعات الدينية الحزبية سقوط الأندلس، وهم الآن يحاولون إسقاط تجارب حضارية، بل يراهنون على كسوف شمس التنوير بالعالم أجمع. طمر كل شيء جميل في الدُّنيا والدّين، فالموسيقى التي شخص «إخوان الصَّفا»(القرن الرابع الهجري) فوائدها للبشر(رسالتهم في الموسيقى)، في علاج الأمراض، والتخفيف من الحنق والكراهية، وما يسفر عن الحروب مِن مآسٍ، صارت خصماً للحاكمية الإسلامية، مع أن للموسيقى فضلها في ثقافة التَّسامح، فزِرياب وأحفاده الموسيقيين لم يقتلوا أحداً ولم يهدموا بلاداً.
يكاد الجميع ينقل أخبار زِرْياب مِن «المقتبس» لمؤلفه القرطبي(ت469ه)، فهو الأقدم في هذا المجال، أقصد ما أدخله ونقله هذا المثقف إلى الأندلس مِن بغداد، وكان حينها جديداً فيها، فقد زاد على العود، الذي يعزف عليه الإسلاميون أناشيدهم الجهادية اليوم، الوتر الخامس، وجعله مقابل موضع النّفس مِن الجسد، وأسس نظاماً لتدريس الموسيقى هناك، وأدخل موضة الألبسة لكل فصل لون ولباس خاص، وأدخل استخدام آنية الزجاج في الموائد بدلاً مِن المعادن، وأنواع أطعمة أحبها الخواص والعوام، وتأثر محبوه بموضة شعره(القرطبي، السّفر الثَّاني من المقتبس، والمقري، نفح الطيب من غصن الأندلس الرَّطيب)، مثلما تأثر محبو «ألفيس برسلي» بموضته، لكنه «برسلي» لم يُسقط أميركا، بل وجدناها تتقدم به، مثلما تقدمت الأندلس بزّرياب.
يوماً بعد يوم تتكاثر عجائب وغرائب الإسلام السِّياسي، بشتى فروعه، ولم يبق غير زرياب يتهمونه بسقوط الأندلس، وإلى اليوم يجعلونه عدواً! أما اللقب الذي غلب على اسمه: «وقع عليه ببلده، مِن أجل سُحمة لونه، مع فصاحة لسانه، وحلاوة شمائله، شُبهَ بطائر أسود غرد عندهم للتمثيل به»(السَّيد، معجم الألقاب والأسماء المستعارة في التَّاريخ العربي والإسلامي).