قضيتُ جزءاً من ذكرى يوم الإنزال هذه السنة في لندن، ليس في مراسم الاحتفال التي أقيمت في بورتسمث بانجلترا، وإنما في المؤتمر السنوي حول الحرب البرية لـ«المعهد الملكي للقوات الموحدة». لم يكن ثمة رؤساء دول، ولا محاربون سابقون، ولا سفن؛ وكان ذلك تجسيداً عصرياً للتحالف الذي حارب على شواطئ نورماندي قبل 75 عاماً. في قاعة جميلة ذات سقف على شكل قبة وألواح خشبية، التأم مئات المدنيين والعسكريين بتشكيلات متنوعة من البدلات العسكرية، من أجل الاستماع إلى الجنرالات والسفراء والخبراء في مجال الدفاع يتحدثون عن التحديات الأمنية الجديدة.
من بعض النواحي، يمكن القول إن هذه المجموعة لم تكن أبداً أقوى مما هي عليه اليوم. فمنذ أن ذهب الرئيس أوباما إلى تالين، (إيستونيا) عام 2014، عقب الغزو الروسي لأوكرانيا، وقال: «إن الدفاع عن تالين وريغا وفيلنيوس مهم قدر أهمية الدفاع عن برلين وباريس ولندن»، زاد التحالف تمريناته ووسّع نطاقها. واليوم، هناك جنود بريطانيون وألمان وكنديون منتشرون في دول البلطيق، وجنود أميركيون في بولندا. وفي المجالس العلنية، يندر أن تسمع مسؤولاً من «الناتو» يشكك في صحة التحالف وأهميته.
لكن تحت السطح، يبدو التحالف الأكبر في العالم قلقاً للغاية؛ لأن الرئيس الأميركي يجعله يشعر بالقلق. هذا ليس لأن ترامب يتصرف على نحو غير لائق حيال روبرت مولر ومهين، رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي، أثناء تحدثه على خلفية مقبرة في نورماندي؛ وليس لأنه يريد من الحلفاء أن ينفقوا مالاً أكثر على الدفاع.. وإنما لأنه يستخدم اللغة الانعزالية نفسها التي استخدمها الأميركيون الذين عارضوا الدخول في الحرب العالمية الثانية.
في أبريل 1941، ألقى تشارلز ليندبرغ خطاباً في اجتماع لـ«لجنة أميركا أولاً»، الذي دعا الأميركيين خلاله إلى البقاء خارج الحرب، حتى يستطيعوا «الإسهام في تقدم البشرية بطريقة بنّاءة وذكية أكثر مما فعلته الدول الأوروبية المتحاربة». مئات الآلاف من الأميركيين، ومنهم الرئيسان المقبلان جيرالد فورد وجون كينيدي، كانوا متفقين مع «حركة أميركا أولاً» وانضموا إليها في البداية. لكن ذلك كان قبل هجوم «برل هاربر». وبالمقابل، فإن ترامب، وبعد عقود على نهاية الحرب، يتفق مع ذلك التحليل. ففي كتاب نشره عام 2000، كتب ترامب، الذي يحب أيضاً شعار «أميركا أولاً»، إنه في أوروبا «ليست لدى أميركا مصالح حيوية في الاختيار بين الفصائل المتناحرة التي تعود عداواتها إلى قرون عدة خلت..».
ولو كان «الناتو» تحالفاً من الطراز القديم، لربما كانت لغة ترامب ستهمّ. لكن الناتو تحالف دفاعي: فهو موجود ليس من أجل الهجوم، وإنما من أجل الردع، وذلك حتى لا نضطر لخوض معركة دموية أخرى مثل يوم الإنزال. والتأثير الردعي ناجح لأن المادة 5 من معاهدة الحلف تقتضي أن تهب الولايات المتحدة، وترسانتها النووية، لمساعدة أي دولة عضو حالَ تعرضها لهجوم. غير أن الرئيس الأميركي يستطيع وضع تلك الضمانة موضع شك.
والواقع أن ثمة أسباب وجيهة للأمل في حدوث الأفضل. غير أن الانعزالية كانت الفلسفة المهيمنة للسياسة الخارجية الأميركية بين الحرب العالميتين الأولى والثانية، وسيكون من السذاجة تخيل أنها لا يمكن أن تصبح كذلك مرة أخرى. فوائد ومزايا 75 عاماً من انخراط الولايات المتحدة مع أوروبا باتت اليوم مألوفة جداً، لدرجة أن معظم الناس يعتبرونها من المسلّمات.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»
من بعض النواحي، يمكن القول إن هذه المجموعة لم تكن أبداً أقوى مما هي عليه اليوم. فمنذ أن ذهب الرئيس أوباما إلى تالين، (إيستونيا) عام 2014، عقب الغزو الروسي لأوكرانيا، وقال: «إن الدفاع عن تالين وريغا وفيلنيوس مهم قدر أهمية الدفاع عن برلين وباريس ولندن»، زاد التحالف تمريناته ووسّع نطاقها. واليوم، هناك جنود بريطانيون وألمان وكنديون منتشرون في دول البلطيق، وجنود أميركيون في بولندا. وفي المجالس العلنية، يندر أن تسمع مسؤولاً من «الناتو» يشكك في صحة التحالف وأهميته.
لكن تحت السطح، يبدو التحالف الأكبر في العالم قلقاً للغاية؛ لأن الرئيس الأميركي يجعله يشعر بالقلق. هذا ليس لأن ترامب يتصرف على نحو غير لائق حيال روبرت مولر ومهين، رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي، أثناء تحدثه على خلفية مقبرة في نورماندي؛ وليس لأنه يريد من الحلفاء أن ينفقوا مالاً أكثر على الدفاع.. وإنما لأنه يستخدم اللغة الانعزالية نفسها التي استخدمها الأميركيون الذين عارضوا الدخول في الحرب العالمية الثانية.
في أبريل 1941، ألقى تشارلز ليندبرغ خطاباً في اجتماع لـ«لجنة أميركا أولاً»، الذي دعا الأميركيين خلاله إلى البقاء خارج الحرب، حتى يستطيعوا «الإسهام في تقدم البشرية بطريقة بنّاءة وذكية أكثر مما فعلته الدول الأوروبية المتحاربة». مئات الآلاف من الأميركيين، ومنهم الرئيسان المقبلان جيرالد فورد وجون كينيدي، كانوا متفقين مع «حركة أميركا أولاً» وانضموا إليها في البداية. لكن ذلك كان قبل هجوم «برل هاربر». وبالمقابل، فإن ترامب، وبعد عقود على نهاية الحرب، يتفق مع ذلك التحليل. ففي كتاب نشره عام 2000، كتب ترامب، الذي يحب أيضاً شعار «أميركا أولاً»، إنه في أوروبا «ليست لدى أميركا مصالح حيوية في الاختيار بين الفصائل المتناحرة التي تعود عداواتها إلى قرون عدة خلت..».
ولو كان «الناتو» تحالفاً من الطراز القديم، لربما كانت لغة ترامب ستهمّ. لكن الناتو تحالف دفاعي: فهو موجود ليس من أجل الهجوم، وإنما من أجل الردع، وذلك حتى لا نضطر لخوض معركة دموية أخرى مثل يوم الإنزال. والتأثير الردعي ناجح لأن المادة 5 من معاهدة الحلف تقتضي أن تهب الولايات المتحدة، وترسانتها النووية، لمساعدة أي دولة عضو حالَ تعرضها لهجوم. غير أن الرئيس الأميركي يستطيع وضع تلك الضمانة موضع شك.
والواقع أن ثمة أسباب وجيهة للأمل في حدوث الأفضل. غير أن الانعزالية كانت الفلسفة المهيمنة للسياسة الخارجية الأميركية بين الحرب العالميتين الأولى والثانية، وسيكون من السذاجة تخيل أنها لا يمكن أن تصبح كذلك مرة أخرى. فوائد ومزايا 75 عاماً من انخراط الولايات المتحدة مع أوروبا باتت اليوم مألوفة جداً، لدرجة أن معظم الناس يعتبرونها من المسلّمات.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»