لا أدري كيف استطاعت الكنيسة الكاثوليكية الخلاص من المواريث السلطوية البابوية، ومن مواريث محاكم التفتيش. هناك من يقول إنّ الإصلاح البروتستانتي صنع خياراً بديلاً فانصرف الناس باتجاهه، فاضطر ذلك الكنيسة الكاثوليكية للتحول عبر ثلاثة قرون. وهناك من يقول إنّ العنف (باسم التنوير!) الذي مارسته الثورة الفرنسية هو الذي أرغم الفريقين الكاثوليكي والبروتستانتي على الانحناء للعاصفة والتلاؤم. وهناك أخيراً من يقول إنّ الضغوط المتبادلة بين الفريقين الكاثوليكي والبروتستانتي عبر الحروب الدينية، ثم عبر التنافُس على «الأرواح»، دفع الطرفين للاحتكام إلى القيم الإنسانية العالمية، وتأويل العقائد والقيم المسيحية باتجاهها. وقد يكون شيء من ذلك كلّه قد حصل. وها نحن نرى أنّ العنف باسم الكنيسة أو الإيمان المسيحي قد تضاءل إلى الحدّ الأقصى. والمتطرفون اليوم عندهم يذكرون الدين في آخِر القائمة، لكنهم يذكرون قبل ذلك عوامل إثنية عنصرية، وعوامل محلية، وعوامل سياسية واستراتيجية.
كيف حصل التغيير للخروج من العنف باسم الدين لدى الفريقين المسيحيين؟
فيما يتعلق بالبروتستانت فقد لجأوا إلى التفسيرات الجديدة للعهدين القديم والجديد، وتأويلها باتجاه قيم الحداثة وممارساتها. وظلَّ المعنى العام للدين ذا شقين: شق أخلاق العبادة والعمل، وشق نبوءات القيامة وأماراتها. في حين مضى الكاثوليك لإعادة تأمل شخصية المسيح ومعاني تضحياتها الكبرى، وخرجوا من ذلك إلى «مملكتي ليست من هذا العالم»، فإلى التسليم بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وما يزال لدى الطرفين متشددون بالفعل، لكنهم قلةٌ وليسوا ذوي تأثير بارز، لأنهم لا يستطيعون الوقوف في وجه «التيار الرئيسي» من جهة، ولأنّ مطالبهم داخلية، أي أنهم مختلفون على السلطة في الكنيسة بالدرجة الأولى، وليس على الموقف من الديانات الأُخرى.
إنّ معارك هؤلاء حول العنف والإقصاء والاعتراف تكاد تصبح من الماضي. وقد أضافت إليها تأويلات الفلاسفة الجدد ثقلاً ومسؤوليات، يمضي فيها الجميع إلى ما هو أعمق وأكثر سلاماً وسلامة، رغم أثقال تيارات اليمين الجديد.
أما نحن المسلمين، كما اليهود والبوذيين والهندوس، فما نزال في خضمّ خطابات الهوية المستجدة التي يلعب فيها الموروث الديني دوراً كبيراً، من الناحيتين الرمزية والعملية. وقد لجأ الهوياتيون العنيفون إلى التأصيل، أي العودة للكتاب والسنة والخلافة الراشدة، وراحوا يحاولون الاستعادة بحذافيرها. ولاستحالة «المشروع»، تحولوا دون ترددٍ إلى العنف. وعندما ظنوا أنهم تمكنوا صاروا ينتقون من الموروث عبر القرون ما يعتبرونه داعماً لهم. ولجأت المؤسسات الدينية إلى نفس التكتيك، إنما باختيار آيات وأحاديث وأحداث مسالمة وغير عنيفة، وتفتح آفاقاً على الأزمنة الحديثة. وكلا التكتيكين لم يعجب المثقفين العرب منذ الستينيات، وعمدوا لوضع برامج للخلاص من الموروث؛ تارةً بتحريره وتارة بتحرير الجمهور من تأثيراته. وعماد كل هذه المشروعات، ما عدا مبادرات المؤسسات الدينية، هو القطيعة المعرفية والتاريخية.
إنّ كلَّ هذه المشروعات لم تثمر حتى الآن كما يليق بخطورة الموقف، بدليل بقاء العنف وتصاعُده. لكن آفاق للتفكير الديني الآخر أو التفكير بالدين والعلاقة مع العالم، انفتحت من خلال عدة وثائق إسلامية، أو بين المسلمين وغيرهم، وبلغت الذروة في وثيقة الأخوة الإنسانية بين البابا فرنسِيس وشيخ الأزهر في أبوظبي. وقد ردَّ ذوو الأفكار الداعشية بالهجوم على الكنائس بسيريلانكا. وهذا أمرٌ لا ينبغي الاستخفاف به، بداعي الشواهد المتكاثرة على تراجُع العنف عامة.
نحن نطمح إلى أن يصبح العنف باسم الدين من الماضي، لكن ذلك ما حصل حتى الآن. ونعمل على أن لا تظهر أجيالٌ جديدةٌ تتبع العنيفين. ونطمح مع هذا وذاك إلى اجتراح سرديةٍ جديدةٍ في الدين، بحيث نتجاوز إشكاليات التأصيل التعددي والمُسالم، لأن التأصيل كله يبقى انتقائياً. التأصيل كله قبل تاريخي أو فوق تاريخي، ولكي يستقيم أمر السردية فلابد من إعادة كتابة التاريخ، تاريخ الموروث أو التاريخ الثقافي. فالقطيعة غير مفيدة، وغير مفيدٍ وغير صحيح أيضاً اعتبار التراث التاريخي جامداً وسبباً للانحطاط. المشكلة كبيرة، ولا بد أن يظلَّ الجهد كبيراً في مجال صنع الجديد ونشره.
*أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية -بيروت