برغم أن من يترأسها هو رجل يعتبر نفسه أحد أعظم المفاوضين وصناع الصفقات في التاريخ، فإن إدارة الأميركية الحالية بذلت قصارى جهدها مؤخراً لتجنب عقد أي صفقات. والواقع أن إمكانات السياسة الخارجية بالنسبة لمفاوض كبير كثيرة: فهناك إيران وكوريا الشمالية ببرنامجيهما النوويين، وفنزويلا التي يشرف نظامُها على أزمة إنسانية كبيرة، والنزاع الإسرائيلي الفلسطيني الذي وصفه الرئيس ترامب ذات مرة بأنه بات جاهزاً لـ«صفقة القرن». غير أنه في الأشهر الأخيرة، يبدو أن السياسة الأميركية لم تستهدف تجنب اتفاقات حول هذه المشكلات فقط، ولكنها استهدفت أيضاً عرقلة التفاوض من قبل الرئيس.
ولنأخذ إيران مثالاً، فعندما سحب ترامب الولاياتِ المتحدة من الاتفاق النووي مع طهران، قال إنه «مستعد وراغب وقادر» على التفاوض حول اتفاق جديد، وتنبأ على نحو يشي بالثقة بأن نظام الملالي «سيرغب في عقد اتفاق جديد ودائم».
وبعد قرابة عام، قام ترامب بقدر أقل من التفاوض مع إيران مقارنة بأي رئيس أميركي آخر خلال أربعين عاماً الماضية. فلم تتفاوض إدارته مع النظام الإيراني حول برنامجه النووي أو تدخلاته في الشرق الأوسط، ولم تتخذ سوى خطوات محدودة لتحرير المواطنين الأميركيين الذين تسجنهم إيران.
وفي هذا الإطار، يلفت «علي فايز»، من منظمة الأزمات الدولية، إلى أن «مقاربة واشنطن الحالية تتيح سيناريوهين اثنين، لا أحد منهما واعد»: إما أن إيران «ستتمسك بموقفها»، ما سيدفع الإدارة لمضاعفة ضغطها، أو ستقرر استئناف برنامجها النووي لاكتساب بعض النفوذ. وفي كلتا الحالتين، يقول فايز، تفتح استراتيجية عدم التفاوض هذه «طريقاً خطيراً ومشحوناً».
الإدارة الحالية تبنّت مقاربة مماثلةً إزاء فنزويلا، إذ فرضت عقوبات جذرية على نظام نيكولاس مادورو بموازاة رفضها التفاوض مع حكومته. وتتمثل الاستراتيجية الأميركية في دفع الجيش الفنزويلي لتنحية مادورو وإعداد مخطط انتقالي مع حكومة المعارضة البديلة. ولكن موقف الجنرالات لم يتزحزح، ما ترك الفنزويليين أمام تراجع خطير في ظروف معيشية مزرية أصلاً.
أما بالنسبة لـ«صفقة القرن»، فمن المتوقع أن يكشف صهر ترامب جارد كوشنر والمبعوث جايسون غرينبلات، عن مخططهما للسلام في الشرق الأوسط الذي طال انتظاره في غضون شهر أو شهرين قادمين. لكن الإدارة خرّبته عبر توجيه سلسلة من الضربات للفلسطينيين، من قطع التمويل عن السلطة الفلسطينية إلى نقل السفارة الإسرائيلية إلى القدس.
ثم هناك الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون، الذي قال ترامب إنه يفاوضه. وفي اجتماعهما الأخير بهانوي، اقترح ترامب أن يوافق «كيم» على التنازل عن كامل ترسانته النووية والكيماوية والبيولوجية. وعندما رفض كيم وقدم عرضه الخاص، غادر ترامب الاجتماع.
والحق أن الكوريين الشماليين كان لديهم سبب وجيه ليصابوا بالحيرة. فقبل القمة، كانت ثمة مؤشرات على أن الإدارة ستكون منفتحة على اتفاق تدريجي أكثر، تتنازل بموجبه كوريا الشمالية عن بعض قدرتها النووية في مقابل تنازلات أميركية محدودة. وعندما تبنى ترامب بدلاً من ذلك موقف «الكل أو لا شيء»، أنحى النظام الكوري الشمالي باللائمة على بومبيو وبولتون.
والواقع أن بولتون لديه سجل عمره عشر سنوات من تفضيل القوة على الدبلوماسية، في حين جعل بومبيو من التشدد تجاه إيران علامة تجارية خاصة به.
وإذا كان فريق ترامب الأول للأمن القومي، بزعامة إتش. آر ماكماستر وجيم ماتيس وريكس تيلرسون، قد كرس نفسه لإحداث نوع من التوازن في مواقف وقرارات الإدارة، فهل يكون فريقه الثاني حريصاً على تقديم حلول وسطى؟
*محلل سياسي أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»