لطالما بدت عناصر حملة الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في عام 2016 مألوفة للأميركيين. فقد كانت مثيرة للجدل ومفعمة بالغضب والأحقاد، وكان هناك كثير من الأثرياء يتحدثون عن «الشعب» و«إرادته». أضف إلى ذلك حملات إعلانية موجّهة، وبيانات مسروقة، وحسابات مزيفة على وسائل التواصل الاجتماعي. وأما الآن، بينما لم يتبق سوى أيام معدودات حتى تواجه بريطانيا نتائج ما غرسته في ذلك الاستفتاء، تبدو قصة «بريكست» مألوفة أكثر إلى حد المفاجأة: فقد اتضح أن أحد زعماء حملة الخروج من الاتحاد الأوروبي لديه علاقات عمل أعمق مما كان متوقعاً في السابق مع الروس، وقد حاول أيضاً إخفاءها.
والزعيم المقصود هو «آرون بانكس»، أهم ممولي كل من حزب «استقلال المملكة المتحدة» المؤيد لـ«بريكست» وحملة «غادروا الاتحاد الأوروبي»، إحدى المنظمات التي دعت إلى خروج بريطانيا من التكتل الأوروبي. ووفقاً لمعايير الإنفاق المتدنية نسبياً في السياسة البريطانية، كان «بانكس» متبرعاً كبيراً، فقدم 11 مليون دولار من ماله الخاص دعماً لقضية «بريكست»، وجمع خمسة ملايين دولار إضافية لمصلحة القضية، وهناك جزء بريطاني خاص بالقصة، فبفضل استغلال «بانكس» للملاذات الضريبية الآمنة، لم يكن من الواضح تماماً من أين جاء بكل تلك الأموال، ولا ما إذا كانت هذه الأموال كلها ملكاً له.
وبحسب تصريحاته، جاء بعض تلك الأموال من شركة تأمين يمتلكها، ويُفترض أن بعضها من «مناجم ألماس». وكل أمواله موّزعة بين عشرات الشركات التي تتخذ من جبل طارق وجزر العذراء وجزيرة مان وكذلك بريطانيا مقراً لها. وعلى رغم من أنه أكد في شهادته أنه لا توجد أية أموال من مصادر أجنبية ضمن الأموال التي استغلها في تمويل الحملة، فإن اللجنة الانتخابية البريطانية تشككت في رواياته لدرجة أنها طلبت من وكالة الجريمة الوطنية إجراء تحقيق.
وعلاوة على ذلك، يبدو أن «بانكس» كان ودوداً بدرجة كبيرة مع بعض الأجانب الذين اعتقدوا أيضاً أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يصب في مصلحتها. ونشرت صحيفة «الجارديان» الصيف الماضي تقريراً أكدت فيه أن السفير الروسي لدى بريطانيا كان قد عرض على «بانكس» استثماراً مغرياً ومثيراً في مناجم الذهب الروسية، وأعلن «بانكس» أنه لن يستثمر أبداً في ورسيا، ونفى نفياً قاطعاً قبول ذلك العرض. وقال في رد على سؤال مباشر للقناة الرابعة البريطانية: «لا لن أستثمر هناك». لكن مراسلين تلفزيونيين زعموا الأسبوع الماضي أن إحدى شركات التمويل المملوكة لـ«بانكس» سعت بالفعل لإبرام الصفقة، وأن هناك شركة وهمية، تتخذ من السويد مقراً لها، ربما تُستخدم في ذلك الغرض. ولأن «بانكس» لا يزال ينكر إبرام الصفقة، ولأنه من الصعب متابعة القصة، لن نعرف الحقيقة قبل التاسع والعشرين من مارس الجاري، موعد مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي.
لكن حتى إذا لم تكن هذه القصة ستؤدي إلى تأجيل «بريكست»، فإنها تضع الاستفتاء في سياق أكبر. والحقيقة أن بريطانيا أضحت مكاناً تُقبل فيه أموال غير شفافة، من مصادر مجهولة، على نحو واسع النطاق وبلا مبالاة. ولندن هي عاصمة عالمية للأنشطة المصرفية الخارجية، ووطن لأكثر المحاسبين والمحامين تعقيداً، وثلث أصحاب المليارات البريطانيين استفادوا من تلك الخدمات ونقلوا أموالهم بعيداً عن يد الدولة، بحسب تقرير نشرته صحيفة «تايمز أوف لندن» يوم الخميس الماضي. بيد أن كثيرين منهم لا يزالون يقدمون تبرعات للأحزاب السياسية البريطانية، ويواصل كثير منهم الضغط من أجل الإبقاء على القوانين التي تحابيهم كما هي.
ونتيجة لذلك، لا توجد قوة إرادة حقيقية لدى الطبقة السياسية البريطانية لإجبارهم على رد أموالهم إلى الوطن. ولا تمتلك الحكومة البريطانية أدوات قانونية كافية لإجبار «بانكس» على الكشف عن مصدر أمواله. وتواصل وسائل الإعلام البريطانية التحقيق، لكن لو أراد أي شخص التأثير في حملة الاستفتاء البريطاني من خارج الدولة، بعيداً عن التلاعب عبر وسائل التواصل الاجتماعي الذي أصبح الآن من لوازم كل انتخابات، فمن الممكن ألا نعرف عن ذلك شيئاً.
والمفارقة الأخيرة أنه إذا كانت «بريكست» نتيجة، ولو جزئية، لذلك العالم الجديد من الأموال الخارجية وحملات التأثير السياسي، فإن «بريكست» قد يكون ضمانة لاستمرار ذلك العالم بلا قيود، إذ ربما أن الاتحاد الأوروبي هو القوة الوحيدة في أوروبا، وربما في العالم، التي تمتلك قوة تنظيمية وتشريعية لتغيير ثقافة التهرب الضريبي. ومنذ عام 2016، كان الاتحاد الأوروبي يسن قوانين ببطء مخصصة لفعل ذلك تحديداً. وبمجرد أن تخرج بريطانيا من الاتحاد، فإنها ستكون معافاة من تلك القوانين.
وسيعاني قطاع التصنيع في بريطانيا بعد «بريكست»، وستتقلص القوة البريطانية، لكن المنطقة الرمادية، حيث تتلاقى السياسة والمال وحيث يمكن أن تصبح الأموال الأجنبية محلية وحيث يمكن إخفاء الأصول والاتصالات، ستبقى وتزدهر. وربما كان ذلك هو القصد طوال الوقت!
يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»
والزعيم المقصود هو «آرون بانكس»، أهم ممولي كل من حزب «استقلال المملكة المتحدة» المؤيد لـ«بريكست» وحملة «غادروا الاتحاد الأوروبي»، إحدى المنظمات التي دعت إلى خروج بريطانيا من التكتل الأوروبي. ووفقاً لمعايير الإنفاق المتدنية نسبياً في السياسة البريطانية، كان «بانكس» متبرعاً كبيراً، فقدم 11 مليون دولار من ماله الخاص دعماً لقضية «بريكست»، وجمع خمسة ملايين دولار إضافية لمصلحة القضية، وهناك جزء بريطاني خاص بالقصة، فبفضل استغلال «بانكس» للملاذات الضريبية الآمنة، لم يكن من الواضح تماماً من أين جاء بكل تلك الأموال، ولا ما إذا كانت هذه الأموال كلها ملكاً له.
وبحسب تصريحاته، جاء بعض تلك الأموال من شركة تأمين يمتلكها، ويُفترض أن بعضها من «مناجم ألماس». وكل أمواله موّزعة بين عشرات الشركات التي تتخذ من جبل طارق وجزر العذراء وجزيرة مان وكذلك بريطانيا مقراً لها. وعلى رغم من أنه أكد في شهادته أنه لا توجد أية أموال من مصادر أجنبية ضمن الأموال التي استغلها في تمويل الحملة، فإن اللجنة الانتخابية البريطانية تشككت في رواياته لدرجة أنها طلبت من وكالة الجريمة الوطنية إجراء تحقيق.
وعلاوة على ذلك، يبدو أن «بانكس» كان ودوداً بدرجة كبيرة مع بعض الأجانب الذين اعتقدوا أيضاً أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يصب في مصلحتها. ونشرت صحيفة «الجارديان» الصيف الماضي تقريراً أكدت فيه أن السفير الروسي لدى بريطانيا كان قد عرض على «بانكس» استثماراً مغرياً ومثيراً في مناجم الذهب الروسية، وأعلن «بانكس» أنه لن يستثمر أبداً في ورسيا، ونفى نفياً قاطعاً قبول ذلك العرض. وقال في رد على سؤال مباشر للقناة الرابعة البريطانية: «لا لن أستثمر هناك». لكن مراسلين تلفزيونيين زعموا الأسبوع الماضي أن إحدى شركات التمويل المملوكة لـ«بانكس» سعت بالفعل لإبرام الصفقة، وأن هناك شركة وهمية، تتخذ من السويد مقراً لها، ربما تُستخدم في ذلك الغرض. ولأن «بانكس» لا يزال ينكر إبرام الصفقة، ولأنه من الصعب متابعة القصة، لن نعرف الحقيقة قبل التاسع والعشرين من مارس الجاري، موعد مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي.
لكن حتى إذا لم تكن هذه القصة ستؤدي إلى تأجيل «بريكست»، فإنها تضع الاستفتاء في سياق أكبر. والحقيقة أن بريطانيا أضحت مكاناً تُقبل فيه أموال غير شفافة، من مصادر مجهولة، على نحو واسع النطاق وبلا مبالاة. ولندن هي عاصمة عالمية للأنشطة المصرفية الخارجية، ووطن لأكثر المحاسبين والمحامين تعقيداً، وثلث أصحاب المليارات البريطانيين استفادوا من تلك الخدمات ونقلوا أموالهم بعيداً عن يد الدولة، بحسب تقرير نشرته صحيفة «تايمز أوف لندن» يوم الخميس الماضي. بيد أن كثيرين منهم لا يزالون يقدمون تبرعات للأحزاب السياسية البريطانية، ويواصل كثير منهم الضغط من أجل الإبقاء على القوانين التي تحابيهم كما هي.
ونتيجة لذلك، لا توجد قوة إرادة حقيقية لدى الطبقة السياسية البريطانية لإجبارهم على رد أموالهم إلى الوطن. ولا تمتلك الحكومة البريطانية أدوات قانونية كافية لإجبار «بانكس» على الكشف عن مصدر أمواله. وتواصل وسائل الإعلام البريطانية التحقيق، لكن لو أراد أي شخص التأثير في حملة الاستفتاء البريطاني من خارج الدولة، بعيداً عن التلاعب عبر وسائل التواصل الاجتماعي الذي أصبح الآن من لوازم كل انتخابات، فمن الممكن ألا نعرف عن ذلك شيئاً.
والمفارقة الأخيرة أنه إذا كانت «بريكست» نتيجة، ولو جزئية، لذلك العالم الجديد من الأموال الخارجية وحملات التأثير السياسي، فإن «بريكست» قد يكون ضمانة لاستمرار ذلك العالم بلا قيود، إذ ربما أن الاتحاد الأوروبي هو القوة الوحيدة في أوروبا، وربما في العالم، التي تمتلك قوة تنظيمية وتشريعية لتغيير ثقافة التهرب الضريبي. ومنذ عام 2016، كان الاتحاد الأوروبي يسن قوانين ببطء مخصصة لفعل ذلك تحديداً. وبمجرد أن تخرج بريطانيا من الاتحاد، فإنها ستكون معافاة من تلك القوانين.
وسيعاني قطاع التصنيع في بريطانيا بعد «بريكست»، وستتقلص القوة البريطانية، لكن المنطقة الرمادية، حيث تتلاقى السياسة والمال وحيث يمكن أن تصبح الأموال الأجنبية محلية وحيث يمكن إخفاء الأصول والاتصالات، ستبقى وتزدهر. وربما كان ذلك هو القصد طوال الوقت!
يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»