يبدو أن أنثروبولوجيا السياسة مسألة أخرى غير الأنثروبولوجيا الثقافية. أنثروبولوجيا السياسة هي تفاعل العلم والمعارف مع وقائع الصراع السياسي والاجتماعي، وليس مجرد التشكيلات التي عرفها الأنثروبولوجيون من قبل الاستقلال الصوري لمعظم البلدان الأفريقية، وأسموها بأنفسهم الأنثروبولوجيا الكولونيالية (إيفانز بريتشارد في كتاب شهير له).
وقد دفعني إلى هذا الموضوع وعنوانه حول أنثروبولوجيا السياسة، ما قرأته مؤخراً من فصول في كتاب لأنثروبولوجي عتيد مثل «كويسي براه» Kwesi Prah (غانى في جنوب أفريقيا) بعنوان: إشعاعات أنثروبولوجية «Anthropological Prisms»إن جازت هذه الترجمة. ففي أهم فصوله يتحدث عن :الديموقراطية والحاكمية في أفريقيا حيث «Democracy and Governance» يتجادل مع مفهوم الثقافة والمجتمع والتطور الاجتماعي والسياسي بمنهجية إدانة الأنثروبولوجيا الكولونيالية التي لا تبالي إلا بالوضع الإثنوجرافي أو الإثنولوجي الاستاتيكي مقابل التفاعل الذي يتعرض له المجتمعات والثقافات. وهو يعلن منذ مطلع كتابه أن هذا العمل لا علاقة له بأي حال بموضوعات تسمى أنثروبولوجية مثل القرابة، والزواج ، والإقامة، والوراثة، والأنساب! وأن هذا التجميد الذي تقوم به الأنثروبولوجيا التقليدية حتى الآن هو ما يخدم عملية تقسيم المجتمعات، وإتاحتها للحكام الجدد الذين يعرفون كيف يحللون مجتمعاتهم «أنثروبولوجياً» بهذا المنهج ليحكموها بمعرفة حدود الأغلبية تارة، أو الأقلية السياسية تارة أخرى مقدرين أدوار التقليديين القبليين أو الدينيين، وذلك قبل اللجوء إلى تقدير التطور الرأسمالي المشوه ودور الطبقات الوسطى العليا والصغيرة فيه. ومن هنا فلا مانع لدى البعض أن يضعوا علم السياسة والاجتماع بجانب أنثروبولوجيا تقليدية يعرفونها هم لتواجه الحركات الاجتماعية وقوى المجتمع المدني ...إلخ.
ويعتبر «براه» أن اللغة الوطنية أو حتى التعدد اللغوي المفهوم جيداً بتفاعله مع مفاهيم صحيحة للثقافة، يمكن أن تحرر المجتمعات الأفريقية من الاستبداد بموروثه القديم وأشكاله الحديثة.
يقوم الأستاذ «مامو موشيه» Mamoh Mochie (إثيوبي) وأستاذ الأنثروبولوجيا في جامعات أفريقية وأوروبية، بتحليل لظواهر أخرى تحتاج أنثروبولوجيا السياسة ، و«التقليدية». في كتابه الشائع الذي يضم كتابات لمجموعة من الكتاب الأفارقة وغير الأفارقة باسم «بناء أمة أفريقيا»...حركة الجامعة وحركة النهضة الأفريقية، ولتعريف الباحثين به فهو: Making of the Africa- Nation: Pan Africanism and the African Renaissance ، لكن «موشيه» نفسه يكتب عن بعد آخر يعبر فيه عن أمله في انتقال القارة مما يسمى التشاؤم الأفريقي نتيجة الانقسامية والعرقية أو الإثنية إلى تفاؤل يسعى لتحقيق الوحدة الأفريقية. وهنا يتهم ضمناً الفهم الأنثروبولوجي التقليدي لأفريقيا كوحدات قبلية إثنية أو طائفية أنها عطلت حركة الوحدة الأفريقية لفترة سابقة كما تعطل حركة النهضة الأفريقية في الوقت الحالي. وهو ينطلق إلى ضرورة انتقال القارة نفسها من إطار الوحدة المطلقة (المنظمة أو الولايات المتحدة الأفريقية) إلى مستوى الاندماج أو الوجود في العالم. لأن هذه «الوحدة الأفريقية» التي تحاصر الأفارقة (وغيرهم طبعاً) في مفهوم لا يعبر إلا عن أنفسهم في الوجود الخاص To go Together لا بد أن ينتقل إلى مفهوم نظام إقليمي يسعى إلى الوجود في العالم. وهذا الوجود في العالم عند «موشيه»، يمكن أن يقوم على وحدات قومية (يقصد الدولة القومية)، التي تحمل الهوية القومية الواسعة والتطور الرأسمالي للعبور إلى العالم عبر مفهوم عبّر عنه هو و«كويسي براه» باسم «الأوبونتو» Ubuntu وهي الفلسفة التي أصبحت شهيرة في جنوب أفريقيا بعد مانديلا، وإشارة إلى اعتماد الدولة الوطنية لجنوب أفريقيا على فلسفة «الإنسانية» و«التسامح» لينتقل بالدولة الوطنية من الإثنية الأفريقية إلى «العالم» الذي تطلع مانديلا نفسه إلى الوصول إليه.
لكن هناك الزعماء الذين ينطلقون من تفهم واضح لمنهجية الأنثروبولوجيا الكولونيالية إلى فهم حديث لاستخدام السوسيولوجيا والسيادة في الحضر والريف معا، وقوة المجتمع المدني المصنوع على أيديهم، ينتقلون بذلك إلى بناء استبداد ما بعد الاستعمار، نتاجاً طبيعياً لاستبداد المرحلة الاستعمارية (محمود ممداني: المواطن والرعية).
ورغم نجاح بعضهم في الاقتراب من الديمقراطية الليبرالية مثلما فعل «نامدي أزيكوي» في نيجيريا، طموحاً إلى ما أورده في كتابه عن «القومية في نيجيريا» من إشاعة الديمقراطية حتى مع استعمال عنصر القبيلة بمفهوم حداثي جديد، فإنه على عكس ذلك قدم «سيدار سنغور» من السنغال فلسفة «النجريتيد» - الزنوجية - كعقيدة قومية، رغم عنصريتها، أو «جوليوس نيريري» عبر فلسفة الجماعية (الأوجاماعا) ليحكما معاً وكأنها الدولة القومية الحديثة، أحدهما يعتمد على السيطرة بالطائفية (المريدية – التيجانية في السنغال) والآخر بالسيطرة على المناطق الريفية خارج تكوينة دار السلام متعددة الأجناس لا القبائل.. والأمثلة على ذلك كثيرة، أقربها حالة جنوب السودان، وما تم من التفتت على أساس قبلي عقب الانفصال، بسبب تخلف الأنماط الاقتصادية هناك، مقارناً بجنوب أفريقيا وحالة «الاندماج»، الذي يرجعه البعض إلى التشكيلات الرأسمالية المتقدمة في جنوب أفريقيا. يحذر الكثيرون من اجتهادات السياسيين الجدد والعسكريين في مجال الأنثروبولوجيا!، ونحذر نحن خوفاً على تطورنا التحديثي من انغلاق الأنثروبولوجيا على نفسها في إطار مفاهيم الأنثروبولوجيا الاستعمارية!