على ضوء الانتخابات الرئاسية الأخيرة، التي جرت في تركيا، وشهدت تنافساً شديداً بين الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان، ومنافسيه كمال كليتشدار أوغلو، وسنان أوغان، وفاز فيها أردوغان، يبدو أن الشعب التركي متمسك بشدة بتجربته السياسية القائمة المرتكزة على الديمقراطية الغربية، التي أوجدها لنفسه منذ بداية ثمانينيات القرن العشرين، بعد صراع مرير ضد الطغم العسكرية، التي توالت على حكم تركيا منذ منتصف القرن العشرين نتيجة لسلسلة من الانقلابات العسكرية المتتالية، التي نفّذتها واستولت نتيجة لها على السلطة السياسية.
وبالعودة إلى سلسلة الأحداث، التي جرت أثناء وقبل وبعد الانتخابات الماضية، وإلى نجاح الانتخابات ذاتها يثور أمامنا سؤالان محوريان: الأول، هو لماذا يحرص الأتراك على إنجاح العملية الديمقراطية في مجملها؟ والثاني، هو لماذا يقومون بتخصيص مقدار كبير من وقتهم وجهودهم للحديث حول تجربتهم السياسية الحالية، والعمل على ترسيخها؟
إن منبع هذين السؤالين، هو أنه في دولة وطنية ما زالت في طور صراع مع ذاتها، حول قضايا الديمقراطية والتقدم والتخلُف، وتصنيفها دول الغرب ضمن دول العالم النامي، رغم أنها كانت في الأمس القريب إمبراطورية ممتدة من مشرق الأرض إلى مغربها، يذهب ما نسبته تسعون بالمائة من أولئك الذين يحق لهم حق الانتخابات إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم!
وحقيقة أن ما يحدث في تركيا، هي ظاهرة سياسية ملفتة للنظر، لكن لمعظم الظواهر السياسية مسبباتها وخلفياتها، التي تعمل على بلورتها وتترتب عليها تداعيات، إما أن تكون إيجابية أو سلبية، يتم بعد ذلك البناء على نتائجها. بالنسبة لتركيا وللأتراك من تلك الأسباب تجربتهم منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى، حيث كانت الرغبة جامحة في بناء الدولة - الوطنية الحديثة، بعد أن تعرضت الإمبراطورية العثمانية للانهيار، وتم تقاسم المناطق التي كانت تسيطر عليها في شتى الاتجاهات، وتعرضت تركيا ذاتها للهجوم من قبل اليونان، التي كانت مسنودة من قبل دول أوروبية أخرى لها مصالح ضد تركيا.
كانت تلك التجربة المريرة التي تعرضت لها تركيا وشعبها قاسية عليهم، حيث وجدوا أنفسهم أمام تحدٍ كبير، قد تكون نتائجه هي سقوط الوطن الأم في يد الغرباء وضياعه، وتعرضهم ذاتهم كشعب لحكم الأجانب، بعد أن كانوا في يوم ما حكاماً لنصف العالم. إن ما تعرضت له تركيا من مخاطر في بداية القرن العشرين، وتمكُنها من صدّها كان يعني أيضاً التوجه نحو إيجاد وسائل جديدة لحل مشاكل البلاد السياسية، ومشاكل الدولة والمواطنين الاقتصادية والاجتماعية.
لكن سير الأحداث اللاحقة بعد أن سيطر العسكريون على السلطة السياسية، أثبتت أن تلك التطلعات لم تتحقق ودخلت البلاد في تجربة سياسية لم تحقق الآمال المنشودة. في البداية كانت الشعارات تنادي بالقومية التركية وبناء الدولة - الوطنية وحرية المعتقد والتوجه نحو الغرب وبناء الاقتصاد على أساس من الرأسمالية والحرية الاقتصادية والديمقراطية القائمة على التعددية الحزبية على أسس علمانية. لكن بعد التجارب القاسية والإخفاقات المتتالية بدأت الأصوات تتحدث عن عودة تركيا إلى جذورها، والتوجه نحو العالم العربي مع التمسك الشديد بالديمقراطية في ثوب ترغب أغلبية تركية بانتهاجه والمحافظة عليه.
*كاتب إماراتي