جلس أحد الملوك مع أبنائه الأمراء الذين لم يبلغوا الحُلم بعد، في لحظة سمر هادئة ومشوقة في أحاديثها. طرأ على خاطر أحدهم هذا السؤال المثير والمفاجئ لأبيهم، وتحدث معه بصفة الأبوة وليست الإمارة والملك! أبي ما هو الأصعب، خوض ميدان الحروب أم خوض غمار تربية الأبناء؟! فكّر الأب طويلاً وأخذ من أنفاسه زفرات، ثم أجاب عليهم قائلاً: خضت معارك عديدة انتصرت مرات وهُزمت مراراً، لكن في كلتا الحالتين كان الأمر عليّ هيناً، ولكن كان همي الأكبر والوحيد ألا أُهزم في ميدان التربية معكم، في الحروب نبدّل القادة الميدانيين، ولكن في العائلة والأسرة كيف لنا أن نبدل الأولاد بغيرهم، لذا أرى أن الفشل في تربية الأبناء أشق عليّ من أي هزيمة في الحروب!
التحدي الأكبر في حياة الأسر التربية، ولا أقول التعليم لأن هذا دور المؤسسات الرسمية والأسرة في المجتمع ليست منها. التربية في مفهومنا المحلي يعني «السنع» وفي ذلك يكمن اهتمام قادتنا في الإمارات. فلو سنّع كل أب أبناءه، لوفّر على بقية المؤسسات المدنية والأمنية عناء السلوكيات السلبية للأولاد. الإمارات بحمد الله مازالت من المجتمعات التي تتميز بالأسر الممتدة، أي بمعنى وجود الأب والأبناء والأحفاد في بيت واحد أو في الأرجاء.
وهذا النمط من الأسر صمام أمان لأفراد المجتمع، لأن منظومة العادات والتقاليد والقيم الأخلاقية والاجتماعية تنتقل بين ثلاثة أجيال في آن واحد. أهم عامل مفصلي في تربية الأبناء وفي مصطلح التراث العربي (التأديب) هو عنصر القدوة بلا منازع، وكان الحكام في سابق الزمان وقادمه يركزون على هذا السلوك المهم، ومازالوا يخصّصون لأبنائهم من يقوم بهذه المهمة لضمان صلاحيتهم للمستقبل.
ولن أذهب بعيداً في هذا الجانب الضروري لاستدامة التربية السليمة، فلنا في المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان طيّب الله ثراه، نعم القدوة من واقع حياته الشخصية. سُئل ذات مرة عن القدوة، التي أثرت حياته فأجاب قائلاً: (في حياتي ثلاث شخصيات كانت محور تكويني: الأولى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والثانية الوالدة رحمة الله عليها والثالثة الشاعر المشهور بالمتنبي). إن تاريخ حضارتنا يدعم هذا العامل الجوهري في التربية، يقول الإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله في حوار مقتضب مع رئيس وزراء الدولة السلجوقية «نظام الملك»: «مولاي علّمني أن العمل من أجل الأمة هو عين الإخلاص وأن القدوة الحسنة خير معلم».
نلمح في هذا المشهد أمرين أساسيين وهما، تربية الأبناء على الإخلاص لحكامهم وقادتهم وعدم إهمال هذا الجانب في زرع الإيمان بذلك حتى لا يأتي مخادع يلعب بهم بين الخطوط الحمراء من الولاء والوفاء والإخلاص التام لقادة الوطن. وأن القادة هم جزء مهم من مسار التربية الوطنية عبر القدوة الحسنة، التي تُعد رافداً حيوياً للتنشئة الاجتماعية الصحيحة، حتى لو غصنا في عمق التاريخ، فليس لنا بد من العودة إلى واقع ما عشناه في جانب القدوة في قادتنا.
أعود إلى الإقتداء بالمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، فأثناء توليه حكم العين لعقدين من الزمن (1948 - 1968)، بَنى مدرسة للبنات من أجل تطبيق مبدأ المساواة في التعليم بين الجنسين، وعند افتتاح المدرسة رفضت الأسر إرسال بناتها للتعلم بحكم العادات والتقاليد القبلية والاجتماعية آنذاك، وعندما علم الشيخ زايد بالأمر، لم يصدر مرسوماً ملزماً، بل أدخل بناته أولاً إلى المدرسة، ومن بعد ذلك لم تتخلف أسرة عن إلحاق بناتها إلى المدرسة من دون تردد.
لابد أن نعي بأن الطفل يمر أولاً في طور تقليد الأبوين إلى سن السابعة ويسمى سن التمييز، ومن ثم يدرك جوانب القدوة في والديه إلى أن يصل إلى مرحلة الاستقلال بشخصيتيه دون الخدش في فضل أبويه عليه.
*كاتب إماراتي