ما جرى ويجري من مباحثات ومشاورات جادة بين الروس والأميركان حول القضايا المحورية لكليهما، قد مهّد الطريق لآليات ردع استراتيجي وقائي جديدة في العالم، إلى جانب الردع الصيني التكنولوجي والاقتصادي الاستباقي، وتوازن الرعب. وسوف يكون للهند في المستقبل دور في تلك المنظومة. وتباعاً سوف تقسم مناطق الهيمنة في العالم، وتختفي قوى تقليدية كان لها دور مهم في القرار الدولي، وربما يبدأ التخلي عن العولمة الليبرالية مقابل نظام النفوذ التشاركي. وستبدو أشد الخلافات والتباينات بين تلك الدول كفرص سانحة أكثر من كونها عراقيل لفرض واقع دولي ناشئ.
وتعد مظاهر تلك الحسبة الجديدة ظاهرة للعيان في كل مناطق التنافس الدولي، لا سيما منطقة الشرق الأوسط ومنطقة القرن الأفريقي وشمال أفريقيا ومنطقة الساحل والغرب الأفريقي وشرق أوروبا ودول البلقان ودول منطقة البحر الأسود ودول آسيا الوسطى وبحر الصين الجنوبي ومنطقة المحيطين الهادئ والهندي «الإندو-باسيفيك» ومنطقة البحر الأحمر وخليج غينيا والدول الأهم في أميركا الوسطى والشمالية والجنوبية وجزيرة جرينلاند ودول الشمال الأوروبي ونقاط الاختناق البحرية من مضايق طبيعية أو قنوات مائية اصطناعية ومشاريع وخطوط النقل ومشاريع البنية التحتية العابرة للقارات.
تلك المناطق تمثل عنق الزجاجة وحتمية تقبل حلول معضلة تقاسم النفوذ بين كبار العالم! فقد عادت الممارسات الاستعمارية للواجهة بثوب مختلف تماماً، وبرز مفهوم الدول الحضارية السيادية المكتفية ذاتياً بالموارد المتوافرة داخل أراضيها وفي أراضي الدول المجاورة، أو التي تربطها بها علاقات استراتيجية وثيقة، ولا تملك خيار ألا تتعاون معها كضمان لها للبقاء ضمن اللعبة كلاعبين ثانويين، أو دول تقوم على هامش دول المركز وتقتات من التقنيات والتجهيزات والصناعات المتقدمة التي تعتبر مستخدماً نهائياً لها، وكل ما يضمن وجود الخدمات والمنتجات الأساسية على أراضيها يعتمد على معرفة نوعية وصناعات تخصصية خارجية لا تملك أسرارها، وهو الوجه الأبشع للاستعمار المعاصر.
فهل تستمر الدول ذات النفوذ الأكثر تأثيراً في العالم في عظمتها دون أن تتحول لنموذج الدولة العظمى القومية؟ والدخول في وحدة اقتصادية وجغرافية مع دول الجوار، ولحدوث ذلك سيسمح لدول الهامش التي تدور حول الدول المركزية بالتمتع باستقلال في هوياتها وليس في توجهاتها السياسية. وبطبيعة الحال، ستسعى دول المركز لتكوين الأحلاف والتكتلات الحضارية المستقلة أو المناطق الكبرى التي تغطي فضاء حضارياً أوسع، وهو ما يفسر حديث الرئيس الأميركي عن ضم كندا وغرينلاند كواقعية جيوسياسية يفرضها مبدأ واقعية من يملك قوة الاتفاقيات والصفقات الردعية الوقائية الاستباقية.
وفي سياق متصل، ستزدهر الاتفاقيات المؤقتة كضرورة لتشكيل خريطة العالم الجديدة، وتلك الدول المركزية سيكون لديها القدرة على إدارة استقلالها الاقتصادي والسياسي والمساحات الجغرافية الواسعة داخل حدودها السياسية، وحدود تحقيق مصالحها، والتي تعتبر جزءاً من حدودها، ناهيك عن الحدود الافتراضية، ونسمع اليوم عن حدة الهجمات السحابية الرقمية في العالم أجمع، ولربما تدور رحى الحرب العالمية السحابية الأولى ونحن على مشارف تذوق مرارة تداعياتها.
ومن جهة أخرى، فإن من يملك مقومات تفكيك الهياكل القديمة وموارد اقتصاد الحرب، ومكونات القوة الصلبة والهيمنة الرقمية، يستطيع تغيير جلده السياسي في أي وقت. ولا أرى أن نغمة المبادئ والقيم المشتركة سيكون لها أهمية ضمن الواقعية الجيوسياسية البرغماتية، ولن تسعى الدول الكبرى في فرض قيم الديمقراطية والليبرالية والعولمة، بل المضي قدماً مع كل ما يتماشى مع أهدافها فقط.
ولا ضمانات لأية أمة في العالم ولا مأمن من أن تفقد أهم مقومات استقلالها وفق المفاهيم البائدة، وسيترك المجال للدول الأصغر لكي تلعب أدواراً لن تخرج عن الحدود المرسومة لها والأدوار المكلّفة بها. وستعكس الدراما السياسية في المرحلة القادمة عودة قوية للدكتاتورية تحت مظلة الديمقراطية وسيعاد كتابة القوانين والدساتير تحت تهديد حماية المصالح والأولويات الوطنية للأمم في عالم الصفقات السياسية التجارية المشتركة. ولن يكون للمؤسسات الدولية مثل منظمة الصحة العالمية ومنظمة التجارة العالمية والأمم المتحدة وحلف الناتو أي دور في النظام الجديد.
*كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات.