نواصل ما لمحناه ولمسناه في صحبة الشيخ حمدان بن راشد آل مكتوم، رحمه الله. فعندما تولى رئاسة بلدية دبي في منتصف ستينيات القرن المنصرم، كان أحد معالم دبي الحضارية قد اكتمل بنيانه، ألا وهو جسر آل مكتوم الذي يربط شريان الحياة الإنسانية والاقتصادية بين البرين دبي وديرة.

وما أتذكره من زمن الطفولة عبورنا مع الوالد، رحمه الله، بمركبته على هذا الجسر الأول، بعد أن كانت «العَبرة» هي الوسيلة الوحيدة للوصال بين بر دبي وبر ديرة أو قطع المسافة بينهما سباحة. وأذكر أن والدي وقف أمام «كبينة» صغيرة يقف فيها موظف يستلم مبلغاً مالياً زهيداً وقدره 25 فلساً، وبسؤال الوالد قال: إن هذه رسوم عبور الجسر وباتجاه واحد فقط. و لم أدرك في حينه ما وراء دفع المال للانتقال من مكان إلى آخر، ولكن بعد سن النضج الفكري تيقنت أن بناة دبي الأوائل، قد سبقت رؤيتهم زمانهم فهم أعمدة الحكم والحكمة. بُني هذا الجسر في العام 1963، وانتهت فترة دفع الرسوم في العام 1973.

وفي أوائل الثمانينيات كنتُ في رحلة سياحية إلى أميركا، وفي صالة استلام الحقائب، اتجهت إلى مكان العربة وأثناء عملية السحب لم أتمكن من ذلك، فلمحني أحد العمال، فأشار إليّ بوضع عملة معدنية من فئة الدولار لفك عقدة العربة، وعند الاستفسار عن السبب، ذكر لي أن المطار بني من مساهمة القطاع الخاص، وليس الحكومة، وهي بالمقابل تستلم رسوم رمزية عن طريق هذه العربات حتى تستكمل قيمة هذا المطار، وهو أسلوب معهود في المشاركة المجتمعية من قبل الشركات الخاصة، فعلاً في رحلاتي الأخرى للولايات المتحدة لم أستخدم أي عملة في تلك العربات.

دبي كانت في قلب العالم المتقدم منذ القدم، فهي رؤية عابرة للزمن الحاضر لجني ثمار المستقبل الآن وليس بعد حين. في منتصف التسعينيات، أعيد بناء دوار مركز دبي التجاري، فأصبح في حد ذاته معلماً مميزاً تتواصل من خلاله مع منطقة زعبيل، حيث مركز الحكم ومسكن الشيوخ الأكارم. بعد الانتهاء من البنية الأساسية لهذا الدوار، جرى أكثر من تجربة لتصميم الدوار بصورة جمالية أخاذة، وفي كل مرة يعاد تصميمه من جديد. وكان الشيخ حمدان آنذاك مهتماً شخصياً بإنجاز التصميم المناسب لهذا المكان الحيوي. وفي ذلك الوقت ألقى المهمة على كاهل شاب من خريجي أميركا متخصص في «الهندسة الزراعية» يعمل تحت مظلته في البلدية.

فبتصميم الشيخ حمدان، صمم المهندس من الطبيعة شكلاً فنياً راقياً من الورود والأعشاب والأشجار، من دون أي تدخل من الأسمنت والحجر أو الحديد، وهو ما وافق رغبة الشيخ حمدان في تعلقه بالطبيعة الخلاقة والخلابة.

ولم يذهب هذا الإنجاز عن عين الشيخ حمدان بعيداً، ولا أي إنجاز آخر، حتى يكافئ المهندس الشاب بجائزة تليق بهذا العمل البديع، ولم يقف الشيخ حمدان مع المهندس عند هذا الحد، بل أخذ يرعاه بمعيته، حتى تدرج في المناصب العامة في دوائر دبي إلى أعلاها، وبعد التقاعد لم يتخل عنه وأصبح من خاصته إلى ساعة القدر المحتوم، ولا زال يعمل مع أنجاله الكرام. كسب قلوب أفراد الشعب كان هم الشيخ حمدان بن راشد، رحمه الله. وكان الالتفات إلى تميزهم ديدنه، والبحث للارتقاء بهم نصب عينيه، وفتح آفاق المستقبل المدروس نهجه ومسيره، فهو لم يحكم الناس بأوامره، بل بحكمة بصيرته.

*كاتب إماراتي