لم يعد الإعلام كما كان، بل أصبح صناعة تتطور بسرعة البرق، متأثراً بتقنيات رقمية تزداد تعقيداً وتأثيراً. والتحولات في الإعلام العالمي ليست مجردَ تغييرات شكلية، بل هي تحولات جوهرية قلبت موازينَ اللعبة تماماً، إذ لم يعد المتلقِّي مجردَ مستهلك، بل تحول إلى صانع محتوى ومؤثر في أجندة النقاش العام.

وقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي الفاعلَ الأكبر في هذه الطفرة، إذ منحت الأفرادَ قدرةً غير مسبوقة على إيصال أصواتِهم، وجعلت الخبرَ أكثر آنيةً وتفاعلية، لكنها في الوقت ذاته أضعفت النماذجَ التقليدية للإعلام القائم على قواعد التحرير المهني والتحقق الصارم من المعلومات. وبات السباق محموماً بين السرعة والمصداقية، وغالباً ما تخسر المصداقية لمصلحة الإبهار اللحظي. إن التقنيات الرقمية لم تؤثر فقط في سرعة نشر الأخبار، بل غيّرت أيضاً الطريقة التي يتم بها استهلاك المحتوى.

وأصبح الذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات أدوات أساسية في فهم توجهات الجمهور وصياغة المحتوى، بما يتناسب مع الاهتمامات الشخصية للمتلقِّين. وهذه القدرة على التخصيص أسهمت في انتشار ما يُعرف بـ«الفقاعات المعلوماتية»، حيث يتعرّض الأفراد لمحتوىً يعزز وجهات نظرهم، ما يقلص مساحات التنوع في إطار النقاشات العامة.

لكن وسط هذا التحول الرقمي الجارف وغير المسبوق، هناك صناعة أخرى تتداخل مع الإعلام الجديد بشكل لافت للنظر، وهي صناعة الترفيه والمتعة الفنية. لم يعد الإعلام مجردَ منصة لنقل الأخبار أو نشر التحليلات، بل أصبح يعتمد أيضاً، وبشكل متزايد، على أساليب سردية مستوحاة من عالم صناعة السينما والمنصات الرقمية الجديدة. فالأخبار اليوم تُقدم في قالب درامي، والتقارير الإعلامية تُصاغ بأسلوب يُبقي المتلقي مشدوداً، كما لو كان يشاهد مسلسله المفضل.

هذا التشابك بين الإعلام والترفيه خلق تحديات جديدة: فمن ناحية، أصبحت الحقائق تتعرض أحياناً للتجميل والتزويق أو التضخيم والتهويل لجعلها أكثر جذباً للمشاهدين. ومن ناحية أخرى، فقد أدى هذا التحول إلى تقليص المساحات المخصصة للنقاش العميق والتحليل الجاد، وكل ذلك في بيئة يهيمن عليها الإيجاز البصري والإيقاع السريع، حيث لم يعد هناك متسع للتأمل والبحث. ومن جانب آخر، فقد ساهمت المنصات الرقمية في تقليل سيطرة المؤسسات الإعلامية التقليدية، وأصبح الأفرادُ قادرين على إنتاج محتوى إعلامي يصل إلى ملايين الأشخاص دون الحاجة إلى استوديوهات ضخمة أو تجهيزات تقنية مكلِّفة.

ورغم أن هذا الاتجاه أتاح تنوعاً في الأصوات والمحتويات، إلا أنه خلق مصاعب في التمييز بين الأخبار الموثوقة، والمحتوى الإعلامي المضلل. وقد يحمل المستقبلُ المزيدَ من الاندماج بين الإعلام والترفيه. لكن التحدي الحقيقي، في الوقت الحالي، يكمن في الحفاظ على التوازن بين المصداقية والإبهار، بين الخبر كمعلومة ومنتَج بصري.

وهنا، يُطرح السؤال المهم: هل سيبقى الإعلام في جوهره ناقلاً للحقيقة، أم أنه سيتحول تدريجياً إلى مجرد جزء من قطاع صناعة الترفيه الواسعة؟ لعله من المؤكد في الوقت الحالي أن الإعلام في العصر الرقمي الراهن لن يعود إلى ما كان عليه في السابق، بل سيواصل تطورَه بطرق لم تكن متخيلة حتى قبل عقد زمني من الآن.

إن مفتاح النجاح الإعلامي يكمن في كيفية استغلال هذه التحولات الرقمية الجديدة لخدمة الجمهور عبر تقديم محتوى يجمع بين الإبداع والموضوعية، السرعة والمصداقية.. دون أن يفقد دورَه الأساسي في نقل الحقيقة، وتكريس الشفافية، ومواكبة التغيرات المجتمعية.

*كاتب أردني مقيم في بلجيكا