القيم الثقافية هي المعطيات المكونة لبناء جوهر الهوية الإنسانية، حيث تعتبر هي العمود الفقري لبناء المبادئ والأخلاقيات المكونة لشخصية الفرد داخل المجتمع، وتتعدد أنواع القيم الثقافية ما بين قيم أخلاقية واجتماعية ودينية وجمالية واقتصادية، وتعكس تلك القيم الخصائص المميزة لكل مجتمع من المجتمعات، وهي ما نعرفه بالهوية الثقافية للمجتمعات. وتبرز أهمية تلك القيم في حفاظها على الهوية الثقافية للمجتمع وتميزه بين المجتمعات الأخرى، وتعتبر هي المنظم الحقيقي للعلاقات الاجتماعية بين الأفراد داخل المجتمع، وتؤثر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على سلوكيات الفرد وقراراته في جوانب حياته المختلفة، وتعزز من الاستدامة في البنية المجتمعية.
وتواجه القيم الثقافية عدة تحديات مؤثرة، وتبقى النزعة الاستهلاكية إحدى أهم تلك التحديات التي تؤثر بصور متعددة على السلوك الاجتماعي للأفراد داخل المجتمع. والنزعة الاستهلاكية هي توجه اقتصادي واجتماعي نحو الاستهلاك المفرط للسلع والخدمات، حيث يصبح معيار النجاح في الحياة هو الكم المستهلك من معطيات الحياة المادية، والتي تفوق الاحتياجات الطبيعية للفرد والمجتمع، وتخضع تلك النزعة الاستهلاكية لطوفان من الدعاية والإعلان عبر وسائل الإعلام المختلفة، والتي تعزز من مفهوم الرفاهية المادية، وتربطه بطريقة مباشرة مع فلسفة الامتلاك النوعي والكمي للمقتنيات، وتربطها بالقيمة الاجتماعية للفرد.
تنامى نزوح الأفراد إلى تلك النزعة في السنوات الأخيرة مع نمو شبكات التواصل الاجتماعي، والتي كتب فيها الفيلسوف الفرنسي برونو باتينو في كتابه «حضارة السمكة الحمراء»، وعرفها بالرأسمالية الرقمية التي تستغل المليارات من البشر المتصلين بالإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي كمنجم اقتصادي يحتوي على البيانات، وعبّر عن ذلك قائلاً: «لقد أصبحنا تلك المناجم المفتوحة التي تحفرها الأدوات الرقمية في كل مرة نقوم باستخدامها، ويصبح هذا الحفر في بياناتنا الحياتية أكثر فأكثر عمقاً. لقد أمست مراقبة حيواتنا مجرد امتداد طبيعي للإعلانات المستهدفة».
حين نتعمق في تأثير النزعة الاستهلاكية على القيم الثقافية سنجد تأثيراً عميقاً في جوانب متعددة، منها تحويل الهوية الثقافية إلى سلعة، حيث تُخْتَزَل القيم الموروثة والتراث إلى منتجات استهلاكية، أو تتحول إلى خلفية ديكورية لنمط حياة استهلاكي عصري، وتعزل تلك القيم والموروثات الثقافية عن سياقها الأصيل كونها واحداً من المكونات الأساسية لشخصه الفرد وهويته الفردية في سياق الهوية الثقافية للمجتمع. نجد أثراً كبيراً متنامياً  لهذه النزعة على العلاقات الاجتماعية، حيث إنها تعزز من النزوح تجاه الفردية والانعزال عن المجتمع داخل القوقعة الاستهلاكية للفرد وضعف مفاهيم التكافل بين الأفراد، وكذلك ظهور نوع من التنافس السلبي في قياس النجاح والتفوق بالممتلكات المادية والمستهلكات الحياتية، والتي تعزز من التنافس السلبي بين الأفراد، وتصبح قيمة الفرد في المجتمع مرهونة بما يمتلكه وليس بما يقدمه للمجتمع، وهذا يخلق تحولاً جذرياً هادماً في العلاقة بين الفرد والمجتمع.
لذلك هنا نحن ندق ناقوس خطر لا بد أن ننتبه إليه وأن نعمل على إبطاء حركة تفشي تلك النزعة في المجتمع، حتى يمكن خفض تأثيرها لأقل درجة ممكنة، لأنه ليس من العقلاني ولا المنطقي أننا سنستطيع إيقافها بصورة مطلقة. من أهم تلك المعطيات التي تساعد على خفض سرعة سيطرتها على المجتمع هو تعزيز التفكير النقدي لدى الأفراد، وتنمية قيمة التفكيك لأي فكر يتعرض له، والوقوف على تفاصيله، وتكوين شخصية فكرية قادرة على التقييم وقياس الفائدة الحقيقية، وتطوير سلوكها بصورة تحقق قيم المجتمع، وهذا قطعاً تقع مسؤوليته على المنظومة التعليمية والمنظومة الأسرية. أضف إلى ذلك تعزيز تأثير القيم والموروث الثقافي الأصيل وتنمية العلاقة معه كونه قيمة مكونة لأخلاقيات وسلوكيات الفرد، وليس ديكوراً خلفياً لمشهد الحياة اليومية التي نعيشها، مع التشجيع والعمل على ترسيخ نمط حياة مستدام قائم على التوازن ما بين الحاجات والرغبات.
إن المواجهة بين القيم الثقافية والنزعة الاستهلاكية تعتبر صراعاً قاسياً بين الهوية الإنسانية والتوجه المادي المفرط للحداثة، وكي يمكننا تحقيق الأثر الإيجابي لتعزيز القيم والموروث الثقافي والتفكير النقدي وغيرها من عوامل مقاومة التأثير لا بد من التعاون الواضح الأهداف بين الأفراد والمؤسسات الحكومية والمدنية، حتى يمكن إنشاء درع واقية للمجتمع من تغول النزعة الاستهلاكية المادية في مفردات حياتنا.

*باحثة إماراتية في الأمن الاجتماعي والثقافي، أستاذ زائر بكليات التقنية العليا للطالبات، أستاذ زائر بجامعة الإمارات العربية المتحدة.