انتهى نظام حكم استطاع أن يعمّر خمسة عقود ونيّفاً، وليس واضحاً متى يتبلور نظامٌ جديد أو ما إذا كان سيبصر النور قريباً.
أيّاً يكن الطرف أو الفريق الذي انبرى لملء الفراغ فسيُمنح «فترة سماح» كي يرتّب شؤون حكمه، لأن المجتمع بكل مكوّناته تعب من الحرب الداخلية وتداعياتها الخطرة على حياته ومعيشته، ومن حال الجمود التي أعقبتها، ومن العقوبات الدولية التي ضربت الاقتصاد وعطّلت الإنتاجية.
ومهما قيل عن الاستعدادات الذاتية للحكام الجدد، فإن رؤية المصاعب والتحديات من تحت تختلف عن رؤيتها من سدّة المسؤولية في بلد لطالما قيل إنه «يصعب حكمه» لتبرير اللجوء إلى الشدّة في ممارسة السلطة. خلال أيام تبدّلت خريطة النفوذ الداخلي وحتى الخارجي الذي أدار سوريا لبضعة أعوام واستطاع دعم بقاء النظام السابق، لكنه لم يؤهله للانتقال نحو مرحلة إعادة تطبيع الوضع الداخلي وتهيئته للاستقرار، رغم وجود خريطة طريق دولية أُعدّت في عام 2015 بتوافق نادر، أميركي روسي، سابق لحرب أوكرانيا. وكان يفترض في هذه الحرب أن تحفّز النظام والمعارضة على المضي في «الحل السياسي» المبني على تسوية «دستورية» بينهما.
لم تُمكّن الأمم المتحدة من تسهيل هذا الحلّ ولو فعلت لأمكن تحقيق انتقال سياسي منظّم، لكن النظام أنصت إلى حليفه الإيراني وأحبط المسعى. وعندما استعادت سوريا عضويتها في الجامعة العربية كان ذلك مؤشّراً إلى انفتاح عربي على النظام باعتباره ممثل الدولة السورية وليس طرفاً في أزمة، لكن كان عليه أن يلتزم استحقاقات تساعد العرب على دعمه دولياً لتخفيف وطأة العقوبات إن لم يكن لإلغائها، لكنه لم يتعاون. في المسعيين الأممي والعربي كان الهاجس الأساسي الحفاظ على الدولة وتصحيح أدائها لإعادة إنهاضها، إذ تبقى ركيزة حاسمة للخروج من الأزمة ولتحقيق الإصلاح المنشود بوتيرة طبيعية.
في مداخلة رئيسية خلال «حوار المنامة» أخيراً أشار معالي الدكتور أنور بن محمد قرقاش، المستشار الدبلوماسي لصاحب السمو رئيس الدولة، إلى أن «الفشل السياسي» و«الطبيعة التدميرية» للصراع في سوريا عجّلا بانهيار النظام، ونبّه إلى أن ترك المشكلات من دون حلّ يزيدها سوءاً وتعقيداً ويتيح لـ«الأطراف الفاعلة خارج سيطرة الدولة» أن تستغلّ الفراغ السياسي. ولذا أعاد التذكير بحتمية الدبلوماسية لحلّ النزاعات والحؤول دون تحوّلها إلى «حروب بلا نهاية». وفي أي حال أظهر معظم تحليلات الحدث السوري أنه لم يكن فقط بفعل اندفاع ميداني داخلي، بل نتيجةً لتقاطع مصالح دولية وإقليمية، إذ أن الدعم التركي لفصائل «إدارة العمليات العسكرية»، ثم التوغّل الإسرائيلي داخل الأراضي السورية، تمّا بمعرفة الولايات المتحدة ورعايتها.
كان ذلك فصلاً آخر وليس أخيراً لحربي غزّة ولبنان. يبقى الغياب العربي عن هذه التطورات حلقة مفقودة لا يمكن تعويضها، فالاحتضان العربي لسوريا هو العنصر الوحيد الذي يضمن وحدة شعبها وأراضيها، أما تقاسم النفوذ الخارجي على سوريا فيدفع نحو أشكال أخرى من الصراع الداخلي. تكاثرت الدعوات إلى «تغليب الحكمة» و«عدم الانزلاق إلى العنف والانقسام»، ولا أحد يعتقد أن «هيئة تحرير الشام»، بما يُعرف عن معتقداتها وتاريخها القصير، قادرةٌ وحدها أو مع فصائل تشبهها، على مواجهة التحدّيات الماثلة. أما التحدّيان الأكبران فهما اكتساب الثقة داخلياً لإنجاز المصالحات وتعزيز التوجّه نحو دولة مدنية، واكتساب الثقة خارجياً للسير بالاقتصاد نحو التعافي.
* كاتب ومحلل سياسي - لندن