تُعد الهند واحدة من أسرع الاقتصادات نمواً في العالم، غير أن نموها القياسي يواجه بعض الرياح المعاكسة حالياً، إذ بلغ النمو الاقتصادي للبلاد، خلال الربع السنوي الممتد من يوليو إلى سبتمبر، 5.4 في المئة، وهو أبطأ نمو تسجله منذ 7 أرباع، في وقت ارتفع فيه التضخم إلى مستوى تجاوز نسبة الـ6 في المئة التي توقعها البنك المركزي.
وإذا كان رئيس بنك الاحتياطي الهندي المنتهية ولايته قد صرّح بأن الاقتصاد الهندي يتمتع بالقوة والمرونة، وأنه بات في وضع أفضل بكثير للتغلب على التحديات الناجمة عن الظروف والعوامل العالمية، فمما لا شك فيه أن الرياح المعاكسة للاقتصاد الهندي، الذي يُنظر إليه باعتباره نقطة مضيئة في الاقتصاد العالمي، أخذت تطرح بعض المشاكل والتحديات. أحد المجالات المثيرة للقلق هو معدل الاستهلاك في المناطق الحضرية، والذي يبدي مؤشرات على التباطؤ في مختلف الفئات، على خلفية التضخم، ذلك أن الهند اقتصاد يحركه الاستهلاك، إذ إن كل شيء، من التصنيع إلى أنشطة الخدمات، مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالاستهلاك. وهذا يشير إلى أن الشركات أخذت تقلّص حجم إنتاجها وخدماتها، ما قد يعني انخفاضاً في نمو الوظائف وانخفاض استقرار الدخل. وعلى ما يبدو، فإن المستهلكين لا ينفقون حالياً على السلع غير الأساسية، والجزء الأكبر من إنفاقهم يذهب إلى السلع الأساسية فقط. وعلى سبيل المثال، فإن مبيعات السيارات تتخذ منحى تنازلياً حالياً، وهو ما يعني أن الطبقة الوسطى في الهند أخذت تحجم عن شراء مجموعة من الأشياء في ظل حالة عدم اليقين وتراجع الدخل المتاح للإنفاق. وقد أخذت المؤشرات على ضعف معنويات المستهلكين في المدن الهندية الكبرى، مثل مومباي ودلهي، تظهر في قطاعات متنوعة، من مبيعات بسكويت العلامات التجارية الكبرى إلى مبيعات السيارات وأصباغ المنازل التي جاءت دون المتوقع. الاقتصاديون يشيرون إلى ارتفاع سعر الفائدة وانخفاض نمو الأجور والتضخم باعتبارها أسباباً لتراجع الإنفاق الاستهلاكي.
وفي الأثناء، يراقب صناع السياسات وخبراء الاقتصاد مستوى الاستهلاك في المناطق الحضرية جيداً نظراً لأن المناطق الحضرية تسهم بنسبة 63 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للهند وتُعد المحرك الرئيسي للنمو.
وإذا كان الهنود المنتمون إلى الطبقة المتوسطة لم يكفوا عن الإنفاق، فإنهم لم يزيدوا من حجم إنفاقهم ويعمدون إلى ترشيد ميزانياتهم الشهرية. وتعزو بعض شركات السلع الاستهلاكية سريعة الحركة مثل «نستله» و«بريتانيا» و«دابر» انخفاض المبيعات إلى تباطؤ الاستهلاك في المناطق الحضرية. وفي هذا الإطار، سجلت شركة «بريتانيا للصناعات»، التي تبيع البسكويت والخبز ومنتجات الألبان، صافي أرباح بقيمة 5.31 مليار روبية (أو ما يعادل 62.95 مليون دولار) لفترة الثلاثة أشهر التي تنتهي في 30 سبتمبر مقارنة بـ5.88 مليار روبية في العام السابق. ومن جهتها، حققت شركة «دابر» انخفاضاً في الأرباح بنسبة 18 في المئة خلال الربع الثاني من العام بسبب انخفاض الطلب في المناطق الحضرية.
وفي الخضم، يظل السؤال الذي يطرحه صناع السياسات والاقتصاديون على أنفسهم هو ما إن كان هذا الأمر دورياً ومؤقتاً في انتظار رؤية كيف سيعزز موسم الأعراس الاستهلاك خلال الأشهر الثلاثة المقبلة. فحتى الآن، تشير المؤشرات إلى أن الهنود المنتمين إلى الطبقة الوسطى الحضرية يتوخون الحذر. والشاهد أنه حتى خلال موسم الأعياد، الذي يبلغ ذروته خلال شهر نوفمبر من كل عام حينما يقوم غالبية الهنود بعمليات شراء كبرى وتبادل الهدايا وما إلى ذلك، انخفض معدل النمو إلى النصف ليبلغ 15 في المئة مقارنة مع العام السابق، مما يرسم «صورة متباينة» للاستهلاك. ويتوقع البنك المركزي الهندي نمواً بنسبة 7.2 في المئة للسنة المالية التي تنتهي في مارس 2025، مشيراً إلى تحسن الطلب في المناطق الريفية واستمرار نمو قطاع الخدمات باعتبارهما عامليْن مساهميْن في ذلك.
والواقع أن الاستهلاك في المناطق الريفية أخذ ينتعش على خلفية التساقطات المطرية الجيدة لموسم رياح المونسون وزيادة الأموال التي تصل إلى أيدي المزارعين وفقراء المناطق الريفية من خلال دعم المحاصيل والتحويل النقدي للأرباح وسط انخفاض تكاليف المعيشة مقارنة بالمدن.
غير أن السؤال الذي يطرح هو إلى أي مدى يستطيع الاستهلاك في المناطق الريفية أن يعوِّض عن ضعف الطلب في المناطق الحضرية. والجدير بالذكر هنا إلى أنه خلال الفترة الممتدة من يوليو إلى سبتمبر من هذا العام، سجّل الاستهلاك في المناطق الريفية نمواً أسرع بمرتين من الاستهلاك في المناطق الحضرية إذ بلغ 6 في المئة مقارنة بـ2.8 في المئة لنمو الاستهلاك في المناطق الحضرية. ووفقاً لشركة «نيلسون آي كيو»، وهي شركة متخصصة في المعلومات المتعلقة بالمستهلكين، فإن صغار المصنعين أخذوا يتعافون عقب التراجع الأخير، في حين يسجل اللاعبون الكبار تراجعاً في نمو القيمة.
ففي وقت سابق، كان اللاعبون الكبار يبدون أداء قوياً مقارنة باللاعبين الصغار ومتوسطي الحجم. غير أن صغار المُصنعين تعافوا من انخفاض الاستهلاك خلال الأرباع الثلاثة الماضية وحققوا نمواً أسرع من الشركات الكبرى، وذلك بفضل النمو الحاد في الأغذية بالنسبة للاعبين الصغار. إذ ارتفع نمو حجم الأغذية المعبأة إلى 3.4 في المئة خلال الفترة الممتدة من يوليو إلى سبتمبر مقارنة ب2.1 في المئة خلال الربع الممتد من أبريل إلى يونيو.
ومع ذلك، فإن توقعات البنك المركزي الهندي للنمو للسنة المالية 2025-2026 هي 6.3 في المئة. ويظل العائق الرئيسي للاقتصاد هو البطالة. وقد شكّل خلق فرص العمل جزءاً من المجالات التي أولتها الحكومة الهندية اهتماماً خاصاً. وعلى سبيل المثال، فإن الميزانية التي قُدمت العام الماضي حوت مبادرات مهمة تروم خلق فرص العمل. غير أن متوسط معدل البطالة في الهند بلغ 8.17 في المئة خلال الفترة من 2018 إلى 2024، إذ بلغ أعلى مستوى له على الإطلاق عند 23.5 في المئة في أبريل 2020، بينما بلغ أدنى مستوى قياسي له عند 6.4 في المئة في سبتمبر 2022. ولا شك أن هذا مجال يجب مراقبته في الفترة المقبلة.
*رئيس مركز الدراسات الإسلامية- نيودلهي